د.علي مطهر العثربي -
< التفكير الاستراتيجي في بناء الدولة المركزية الواحدة والقادرة لا يأتي من الصغار الذين لا يدركون المصلحة القومية لليمن الواحد والموحد، ولا يمتلكه النفعيون الجدد أو الانتهازيون القدامى أو القادرون على التلون بألوان الطيف السبعة، وإنما يأتي من الاحرار الذين يأبون التبعية والانكسار ويمتلكون مشروعاً حضارياً نهضوياً شاملاً يحقق العزة والشموخ للوطن العربي الكبير دون استثناء لأي من مكوناته الجغرافية والسكانية، وهذا الملمح القومي يظهر في البعد الاستراتيجي لأهداف الثورة اليمنية الستة، حيث كان لأحرار اليمن النبلاء شرف تحديده في خارطة طريق الثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر عامي 1962،1963م).
إن امتلاك المشروع النهضوي الشامل ليس وليد اللحظة التاريخية لاندلاع الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر فحسب، ولكنه ولد مع إنسان اليمن عبر التاريخ الذي برهن للعالم أنه الأجدر به والأكثر تحقيقاً لأبعاده الجغرافية والبشرية وقدم إنسان اليمن عبر مراحل التاريخ نماذج بالغة الأهمية في الحضارة الإنسانية وبناء الامبراطورية العربية اليمنية الكبرى التي سجلتها الكتب السماوية والسّيَر الإنسانية وخلفت آثاراً كشاهد حي على عظمة الإنسان الطموح الذي يأبى إلاّ أن يكون متبوعاً لا تابعاً والذي يرفض العبودية لغير الله سبحانه وتعالى ولا يقبل بإذلال الآخرين أياً كانوا وحيثما حلوا، لأن إنسان اليمن لديه قيم روحية وحضارية وإنسانية فإن له شرف الذكر في كل الكتب السماوية التي حفظت تاريخ اليمن.
إن التفكير والتأمل في أهداف الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر يعطي المؤشر الحقيقي على إنسانية وحضارة إنسان اليمن فعندما أحكم الاستعمار البريطاني قبضته على جزء غالٍ من الوطن اليمني الكبير تحرك أحرار اليمن لانقاذه وتخليصه من قبضة المستعمر البريطاني، وكانت مدينة عدن الحاضنة الأولى لأحرار اليمن، وعندما أدرك الأحرار أن حكم الإمام قد تحالف ضد الأحرار مع بريطانيا تحركوا نحو ترتيب أولوياتهم الكبرى في تخليص الوطن من الاستعمار ورأوا بأن البداية، بعد أن سلكوا كل السبل في سبيل إصلاح نظام الإمام، تكمن في التخلص من نظام الإمام لتكتمل لهم انطلاقة الثورة اليمنية الواحدة فمكثوا طويلاً يفكرون بعمق في صياغة أهداف الثورة مستلهمين الجذور التاريخية للدولة اليمنية الواحدة ومدركين أن الحالة العربية الخانعة والتابعة للقوى الاستعمارية بسبب غياب الوحدة العربية، ومن أجل ذلك نصت أهداف الثورة اليمنية على أن الوحدة اليمنية هي اللبنة الأولى في سبيل بناء جسد الدولة العربية الواحدة، وعندما اطمأنوا على سلامة البعد الاستراتيجي لأهداف الثورة اليمنية انطلقوا صوب التنفيذ العملي، الأمر الذي كان له صداه ليس على مستوى الوطن اليمني الواحد وإنما على مستوى الوطن العربي الكبير، ولعل موقف كنانة العرب مصر العربية المساند للثورة اليمنية يأتي من هذا المنطلق الاستراتيجي الحتمي لمصير الأمة.
لقد برهن تاريخ الفكر السياسي الاستراتيجي اليمني أن الأقوياء هم وحدهم الذين يصنعون التاريخ ويبنون الحضارة الإنسانية ويخلدون ذكرهم العطر، الأمر الذي جعل من أبناء اليمن المشكاة التي ينطلق منها المجد والألق في تاريخ الإنسانية، وبالعودة إلى المراحل المختلفة لتاريخ اليمن نجد أن إنسان اليمن الواحد والموحد لم يصنع المجد إلاّ إذا كان اليمن واحداً وموحداً ولم يذق طعم المر والانكسار إلاّ في ظل التشظي والانقسام، بل ان الدراسات التاريخية والسياسية تؤكد أن اليمن بعد استعادته لوحدته في 22 مايو 1990م قد بدأ يستعيد عافيته السياسية والقومية وينهض باتجاه مشروعه الحضاري الإنساني الذي يتجسد في بناء الدولة اليمنية المركزية القوية والمؤثرة.
إن الاحداث الكارثية التي شهدها الوطن العربي عموماً واليمن خصوصاً منذ 2011م تهدد كيان المشروع العربي الحضاري الإنساني ويحاول المخططون لتدمير الأحلام العربية الكبرى أعادتنا إلى عصر الجاهلية من خلال استغلال المذهبية والقبلية والمناطقية والقروية، حيث اثبتت الأحداث الكارثية أنها ضد التوحد والعزة والكرامة وأنها محاولة من القوى الاستعمارية لإحياء المشاريع الصغيرة التي تنال من الأحلام العربية الكبرى التي لا ترى نفسها إلاّ في الوحدة العربية الكبرى التي تعزز بناء الدولة المركزية القادرة على فرض وجودها في اطار العلاقات الكونية، بل إن القوى الاستعمارية الحديثة جعلت من اليمن مسرحاً لتنفيذ خططها العدوانية على الوطن العربي من خلال الاستهداف المباشر للوحدة اليمنية التي تمثل الإرادة الكلية لأبناء اليمن الواحد والموحد.
إن المشهد السياسي الراهن يوحي بخطورة الوضع السياسي على الوحدة اليمنية ويعطي قرائن على نجاح القوى المعادية لها من خلال المطالب العنصرية للقوى السياسية التي رهنت نفسها للخارج وقبلت أن تكون أداة لتخريب اليمن وتمزيقه إرضاءً لأسياد الخارج وربما زادت درجة التخوف لدى الباحثين السياسيين عقب ظهور حركة الحوثي وسيطرتها على بعض المناطق الشمالية من اليمن دون أن يكون لها وجود في بقية المناطق الأخرى وخصوصاً المناطق الجنوبية من اليمن الواحد، كما أن الحركة على أرض الواقع من القوى الاستعمارية تسير في هذا الاتجاه المدمر للوحدة اليمنية، إلاّ أن اليمنيين كافة يدركون كل ذلك ويعملون له ألف حساب ويرون أن أية محاولة للمساس بوحدة اليمن من أية قوى سياسية فإنها ستكون رصاصة الرحمة على تلك القوى، لأن الشعب اليمني لا يمكن أن يقف مع من يقزم اليمن أو ينال من وحدته مهما كانت الدوافع والمبررات، الأمر الذي يجسد حقيقة الإرادة اليمنية الكلية الرافضة للتشرذم والأرض اليمنية التي ترفض الخونة أياً كانوا..
إن القوى السياسية اليوم أمام محك تاريخي كبير يتمثل في قدرتها على الحفاظ على الوحدة اليمنية لكي تصنع جديداً في الحياة السياسية وهي بدون أدنى شك تحت مجهر الشعب فإن ارادت التصالح مع الشعب والتكفير عن عقوقها للوطن فإن عليها أن تضيف فعلاً جديداً يعزز الوحدة اليمنية ويرسخ مبدأ الولاء الوطني، وإن تهاونت فإن الشعب سيرفضها ويذود عن وحدته ويعمل على تعزيزها بإذن الله.