د.علي مطهر العثربي -
< لم يعد بالامكان تجاهل قدرة اليمنيين على الصبر في حفاظهم على الشرعية الدستورية، بل ان هذا الصبر الذي بدأه المؤتمر الشعبي العام في 2011م والتفاف معظم المكونات السياسية والسواد الاعظم من جماهير الشعب اليمني الحر الأبي حول المؤتمر في الحفاظ على الشرعية الدستورية وارساء تقاليد الديمقراطية وتثبيت مبدأ التداول السلمي للسلطة ورفض الحركات الانقلابية أياً كانت، قد اصبح اليوم النموذج الذي يحترمه العالم ويتعرف من خلاله على الشخصية اليمنية ويكتشف سر التطور الحضاري الذي أسسه اليمنيون منذ آلاف القرون من تاريخ البشرية، وعلامة من علامات «الإيمان يمان والحكمة والفقه يمانيين»، الأمر الذي فرض على العالم احترام اليمن وجعل التعامل معه عبر المؤسسات الدبلوماسية بعيداً عن الاكراه والاجبار والامتهان الذي كان يروج له المحللون الذين فشلوا تماماً في فهم أسرار الحياة السياسية في يمن الايمان والحكمة، وكانوا للأسف يهرفون بما لايعرفون، في حالة الاجماع على مخرج دستوري عبر المؤسسات الدستورية القائمة..
اليمن اليوم يقدم النموذج الإنساني المؤمن بآليات العمل الشوروي الديمقراطي الذي يضيف تقاليد ديمقراطية جديدة سيقف عندها اساتذة النظم الدستورية والنظم السياسية المعاصرة وقفة علمية يتعلمون ويعلمون أن الحياة السياسية ليست قوالب جاهزة على الاطلاق، وان ظروف الزمان والمكان والإنسان هي من يضع اشكال النظم الدستورية والسياسية بما يحقق الخصوصية الجغرافية والبشرية ويرقى إلى مستوى القبول الشعبي كإنطلاقة ميدانية عملية لنيل الرضا الشعبي صاحب المصلحة الحقيقية في الاشكال والأدوات والآليات التي تحقق الإرادة الكلية للشعب اليمني بكل مكوناته الجغرافية والبشرية الواحدة والموحدة وغير القابلة للتجزئة أو التشطير أو التمييز أياً كان.
إن ما سيصنعه اليمنيون اليوم من اشكال في النظم الدستورية والسياسية ليس غريباً عليهم على الاطلاق فهم البؤرة البشرية الأولى التي كونت الدولة وعينت عناصرها القومية بشهادة الكتب السماوية وفي المقدمة القرآن الكريم، ولهم في الملأ علم ومعرفة لم يسبقهم أحد من البشر، وكان لهم الصدارة في رسم ملامح الحضارة الإنسانية، ولمن يجهل التاريخ نقول اقرأوا ونقبوا وحللوا وقارنوا واستنتجوا وافهموا تاريخ الحضارة الإنسانية اليمنية التي ملأت الكون عطاءً نبيلاً كان ومازال وسيظل النموذج الإنساني الأمثل الذي يحتذى به لدى المكونات البشرية والجغرافية للكرة الأرضية التي افرزت تفاعلات استمدت نماذجها من الانطلاقة الأولى لحضارة الإنسان الكونية التي كان مبتداها اليمن الكبير بامبراطورياته الكبرى في التاريخ.
إن الوقوف أمام ما يشهده اليمن من الأحداث الجسيمة منذ فجر يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م سيجعل الذين تحيروا في فهم المتغيرات السياسية الكونية يقفون أمام حقيقة موضوعية بالغة الأهمية مفادها ان اليمنيين يمتلكون القدرة على التنبؤ والقدرة على اختيار القرار المناسب في المكان والزمان المناسبين وبما يحقق لهم بعدهم الاستراتيجي الذي يحقق طموحاتهم المشروعة في إعادة بناء الدولة اليمنية القادرة والمقتدرة والواحدة والموحدة، ومن أبرز المعارف الإنسانية في هذا الاتجاه اتخاذ قرار إعادة وحدة اللحمة اليمنية في 22 مايو 1990م، إذ اعتبر اليمنيون كافة أن هذا التوقيت الزمني هو اللحظة الكونية الجامعة التي تمكن اليمنيين من تحقيق إرادتهم الواحدة وليست ما قبلها من الظروف التي بدت لدى البعض أنها كانت مواتية، قد يقول البعض ان الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر عامي 1962،1963م كانت الظرف المناسب، غير أن الظرف كان شعبياً وربما إلى حد معين اقليمياً ولم تكتمل ظروف اللحظة الكونية اللازمة لانجاز هذا الهدف الثوري العظيم وصبر اليمنيون وقبلوا مرحلياً بالتأسيس لواحدية الثورة بأهدافها الستة الخالدة ليستمر النضال الوطني من اجل استكمال اهداف الثورة، وكانت لحظة قيام كيانين سياسيين دوليين في الشمال والجنوب في 1967م أقوى من الإرادة الواحدة لأنها مفروضة بالتهديد المباشر الذي يقضي على الثورة واهدافها الستة، فكان القبول بواحدية الثورة وثنائية آليات استكمالها من اجل مواصلة النضال للانجاز الأكبر، بمعنى أن مكونات اللحظة الكونية اللازمة لانجاز الإرادة اليمنية الواحدة مازالت في بدايتها ولابد من الصبر على المكاره والنضال المر في سبيل الانجاز والتضحية من اجل الوفاء والولاء الواحد الجامع والشامل.
إن الدارسين لأحداث اليمن عقب عام 1967م من غير اليمنيين لم يتمكنوا من التعرف على عوامل اللحظة الكونية الجامعة لأحلام اليمنيين، لأنهم لم يدركوا تمام الادراك ان اليمنيين موضوعيين في تحديد أهدافهم ويعملون مراحل لانجاز أهدافهم ويتابعون ظروف كل مرحلة ثم يقتنعون بما يمكن ان يكون في كل مرحلة بحسب ظروفها، ثم ينطلقون إلى مرحلة جديدة ليحققوا شيئاً جديداً من اهدافهم، ثم ان الدارسين لأحداث اليمن لم يدركوا بأن اليمنيين قد وضعوا في حساباتهم الذهنية الحاضرة عند تحديد أهدافهم الاستراتيجية أن التضحيات أمامهم ستكون عظيمة وكبرى من اجل انجاز مبتغاهم وبالتالي عدم الاستسلام لليأس وان الأمل والتطلع للأفضل بالصبر والأناة والعقلانية هو بوصولهم في فهم المتغيرات الكونية التي تقودهم لاقتناص الفرص الكونية الجامعة لآمالهم وطموحاتهم المشروعة، وهذا كان من اسباب الإرباك الذي عانت منه الدراسات السياسية غير اليمنية عن احداث اليمن.
لقد ظهرت بعض الدراسات السياسية التحليلية من غير المتعمقين في الشأن اليمني عقب احداث 13 يناير 1986م وظن القائمون عليها بأن اللحظة الزمنية كانت مناسبة لاتخاذ قرار إعادة اللحمة اليمنية من خلال الحيثيات التي كانت عقب تلك الاحداث، غير أن الإرادة الكلية لليمن الواحد والموحد كانت أكثر متابعة لظروف اللحظة الكونية اللازمة فوجدت أنها في ذلك التاريخ لم تكن مكتملة وأصر اليمنيون على معالجة آثار تلك الاحداث وتجاوزها والبدء في مرحلة جديدة لانجاز مشروعهم الحضاري والإنساني، ولم يدرك معاني ودلالات ذلك التعقل المحللون السياسيون إلاَّ قبل إعادة وحدة اليمن في 22 مايو 1990م عندما بدأت المؤامرات على كيان الدولة اليمنية الواحدة تظهر على السطح من خلال الدس الذي كانت تروج له القوى الحاقدة على الوحدة، ليظهر اليمنيون في كل لحظة زمنية أكثر قوة وتماسكاً في سبيل حماية الوحدة وتفنيد دعوات النيل منها أو محاولة الإساءة إليها.
لقد جاءت عاصفة احداث 2011م الكارثية التي اجتاحت الوطن العربي وكان على رأس أهداف العاصفة اسقاط الوحدة اليمنية واحداث التشظي والتدمير لكل مكونات الدولة اليمنية التي كانت قد بدأت تأخذ مكانتها التاريخية في 22 مايو 1990م، وكانت القوى الاستعمارية التوسعية المخططة لمشروع التدمير قد راهنت على الانقسامات الداخلية والتناقضات القائمة بين القوى السياسية وظنت ان ذلك قادر على أن يفت في عضد الوحدة اليمنية، وركزت كل جهدها من اجل تنفيذ عدوانها على الوحدة اليمنية، فأدرك احرار اليمن من جديد من خلال تنبؤهم الفطن العلمي والموضوعي ان هذا التحرك الداعم للعاصفة الكارثية يستهدف الوحدة اليمنية وكيان الدولة وان ما يرفع من شعار ليس إلاّ وسيلة لإثارة البسطاء من الناس والتغرير بهم، الأمر الذي جعل الحكماء والخبراء الوطنيون العظماء يصطفون بقوة من اجل حماية الشرعية الدستورية باعتبارها الدعامة الأساس في حماية الوحدة اليمنية ويرفضون الانقلاب عليها حفاظاً على الوحدة..
إن الحكمة اليمانية التي تجلت في مؤتمر الحوار الوطني من خلال فرسان المؤتمر الشعبي العام كانت الحاجز المنيع الذي فوت على قوى التآمر على الوحدة فرصة تقسيم اليمن وإنهاء كيان دولته القادرة والمقتدرة، فقد استطاع المؤتمر من خلال رؤاه الوطنية الموضوعية الشاملة والجامعة المانعة كسب الرهان الوطني فالتفت حوله مختلف مكونات الحوار وتلاحم المواطنون الشرفاء وتجاوزوا كل كيد وظلت الشرعية الدستورية هي عنوان النبلاء والعظماء من أبناء الوطن من كل المكونات السياسية.
إن ما ارتكبه الحوثيون من اخطاء فادحة بسبب اجراءات الجمعة الفائتة لا علاقة له بالبعد الاستراتيجي اليمني ولا يمثل إلاّ من قام بذلك ولا يحقق القبول الشعبي.. إلاّ ما يتواصل إليه اليمنيون من آليات جديدة لارساء مقاليد الديمقراطية ليبرهنوا للعالم بأنهم اصحاب اجماع وشراكة وصناع حضارة إنسانية تؤمن بوسائل السلم والشراكة وتقدس الشرعية الدستورية وترفض الحلول الانقلابية أياً كانت، وبهذا سيضيف اليمنيون سفراً جديداً من الألق اليماني الذي يبشر بخير الإنسانية وقوة الإرادة المعتصمة بحبل الله المتين لتشق طريقها نحو الأفضل بإذن الله.