د. قائد محمد عقــلان - - قليلة جداً هي الفرص التي تجود بها الساحات السياسية سيما تجاه قوى المعارضة السياسية في المنطقة العربية، التي طالما مُنيت بالقمع والاقصاء وعلى مدى عدة عقود خلت لأسباب عدة لا يمكن اعفاؤها منها كلياً.. ومع أن هذه القوى وفي مختلف البلدان العربية ومنها اليمن على ما يبدو أنها عقدت العزم وبجرأة أكبر من أي وقت مضى في الوقوف على خط النار، والمواجهة وعلى جبهتين الأولى: داخلية مع ذاتها فكراً وسلوكاً، والثانية من الأنظمة الحاكمة لانتزاع حقها المشروع في الحرية والمشاركة السياسية، لكن الأمر المؤسف حقاً هو أن يجد المرء أن هذا الكفاح مازال يصب بالنتيجة في مربع الفشل الذي عادة ما يرحل وبكل سهولة الى ملف »نظرية المؤامرة« و»الابتلاء« والتي ليست صحيحة دائماً بقدر ما هي تنبئ بأن هناك شيئاً أو أشياء يجب أن تعمل على الوجه الصحيح.
فقوى المعارضة التي تُعد اليوم الأعلى صوتاً في المنادات بالديمقراطية بوصفها من أكبر ضحايا الاستبداد والأقرب حضوراً الى مشاعر الجماهير وتطلعاتها كما تدعي، تبدو أنها لاتزال لا تحسن استغلال الفرص والسير بشكل متسق في كلا الجبهتين الداخلية »الذاتية« والخارجية »مع الأنظمة الحاكمة« بما يتفق والمنظور الديمقراطية الذي تتوسل به، وإنما أخذت تجهد نفسها وبتهور أحياناً على الجبهة الثانية »الخارجية« دون الأولى »الذاتية« والمهمة عبر لغة محمومة بالنقد اللاذع وربما الناقم من كل شيء، وعلى الرغم من مصداقية معظم ما تطرح، إلاّ أنها تبقى -من وجهة نظر الكثيرين- لغة نقد ذرائعية لا تستند الى موشرات أو مؤهلات وشواهد عملية من شأنها خلق الثقة لدى الجماهير بأنها على موعد مع أنموذج أفضل لما هو قائم ومتاح على الرغم من علاته، بل هناك من يحذر من مغبة الانزلاق في الدفع بالعملية الديمقراطية الى أقصاها في التغيير السياسي الجذري، ولديه من الشواهد الحية ما يكفي، سواءً أكان ذلك عبر التدخلات الخارجية كما هو حاصل في العراق أو حتى عبر صناديق الاقتراع، كما حصل في فلسطين وتداعياته الآخذ في التفاقم حتى اللحظة.
فالقوى السياسية العربية على مختلف مشاربها وتوجهاتها، على الرغم من تشدقها بالديمقراطية إلاّ أنها لم تصل بعد الى صياغة فكر تأصيلي لها ومتكامل ومؤمنة به بحق، وإنما تقف منها موقفاً انتهازياً ومبتسراً يختزلها على المستوى الفوقي في طرق الاستحواذ على السلطة والاستيلاء عليها فقط، سواءً عبر الاستقواء بقدرات الدولة وإمكاناتها، أو عبر استغلال قوة الجماهير الصوتية المدجنة فكراً وسلوكاً عبر قاعدة »من لم يكن معنا فهو ضدنا بالضرورة«!
تجربتنا الديمقراطية التي وجدت طريقها الى النور في ٢٢ مايو ٠٩٩١م، تندرج جزئياً أو نسبياً ضمن هذا المشهد العام لمجرى التجارب الديمقراطية التي أخذت تشهدها منطقتنا العربية.. فعلى الرغم من أن الديمقراطية كانت هي المعلنة منهجاً لتسيير دولة الوحدة، إلاّ أنه في الواقع العملي قد جرت الأمور في اطار مشهد مضطرب اتسم بالعديد من التحالفات والتوازنات الاستقوائي عادة، والذي تقاسمته مختلف القوى السياسية دون استثناء، ولم تبرز قوة أو قوى سياسية في انتهاج موقف المعارضة التي من شأنها استغلال مثل هذه الفرصة التاريخية السانحة وبلورة موقف ورؤى سياسية ناضجة من شأنها التفعيل الجدي لهذه التجربة ومستعدة لتحمل التضحيات لمثل هكذا موقف، وإنما أخذت كل القوى تركز انظارها على المستوى الفوقي من السلطة مضحية بقيم ومبادئ أصول العمل الديمقراطي نظير مصالح ضيقة وآنية قللت من جدية التجربة وأهميتها. بيد أن هذا المنهج النفعي وقصير النظر الذي جُير باسم الديمقراطية سرعان ما أخذ بالتبدد والانكشاف بعد ما تقلصت احتياجاته المرحلية ونضبت مصادره واستهلك أطرافه، لتشهد الساحة السياسية من بعده مرحلة جديدة من الفرز السياسي أخذت معالمه تلوح في الأفق من بعد انتخابات عام ٧٩٩١م البرلمانية التي قرر فيها »حزب المؤتمر الشعبي العام« وبنجاح خوض معركة »كسر عظم« مع »حزب الاصلاح« منهياً بذلك لما يمكن وصفه بمرحلة مضنية من الشراكة القائمة على المساومة والمحاصصة »وتقسيم الغنائم« التي تميز بها »حزب الاصلاح« بعد حرب صيف ٤٩٩١م، التي أبلا فيها بلاءً كبيراً، وعلى إثر ذلك قرر »حزب الاصلاح« وربما بقناعة متأخرة اعتناق منهج المعارضة وادراك معنى الديمقراطية.
وبالفعل تمكن حزب الاصلاح بعد مدة وجيزة من العمل والتنسيق المنفتح على بقية أحزاب المعارضة الأخرى من استقطاب عدد من الأحزاب الأخرى وتشكيل أكبر جبهة تحالف للمعارضة عرفت باسم »أحزاب اللقاء المشترك« والخروج بمشروع عمل للاصلاح السياسي »مشروع اللقاء المشترك للإصلاح السياسي الوطني« المعلن في نوفمبر ٥٠٠٢م، وذلك استعداداً لمجابهة المؤتمر الشعبي العام، الحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية القادمة المقرر اجراؤها في سبتمبر المقبل.
وعلى الرغم من أن هذه التجربة قد مثلت باعتقادي نقلة نوعية وغير مسبوقة في عمل المعارضة السياسية عبر تاريخها السري والمعلن وكنا نود ونتتطلع أن نراها وهي تتقدم الى الأمام بكل وضوح وشفافية تجسيداً لروح العمل الديمقراطي، إلاّ أنها مع الأسف بدت في مآلها النهائي يكتنفها الغموض ومثقلة بتحسبات متناقضة وبالية، وبالتالي مُخيبة للآمال بعض الشيء..فمرشحها في الانتخابات الرئاسية المقبلة والذي طال انتظاره أتى وبعد ولادة متعسرة من خارج الأطر الحزبية لأطراف اللقاء المشترك، ليس لافتقار هذه الأحزاب لقيادات وكفاءات من العيار الثقيل، كما ذهب البعض، وإنما باعتقادي أن ذلك الهروب أو المخرج يعكس التركيبة الهشة والبراجماتية لهذا التكتل، والذي على ما يبدو أن أطرافه لم يتخلصوا بعد من الرؤى الايديولوجية الضيقة والتي يتقاسمها أطراف اللقاء المشترك أو على الأقل بعضهم تجاه بعضهم البعض وأن هذا التحالف ربما عارض ووقتي حاله حال انفتاح الولايات المتحدة على الصين الشيوعية إبان مرحلة الحرب الباردة، والذي لم يكن يعكس نوايا حقيقية للتقارب الجدي وتنامي عوامل الثقة بين البلدين بقدر ما يعكس تكتيكات وقتية ونفعية اقتضتها طبيعة تلك الحرب والتي لا يصح أن تكون أسلوباً لعمل قوى وطنية من أبناء جلدة واحدة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى يعكس باعتقادي التسليم المسبق بالهزيمة من قبل أطراف اللقاء وبالتالي ترحيلها الى خارج أطرها الحزبية وقياداته حفظاً لماء الوجه وحرصاً منها على الاحتفاظ بكروتها البارزة وعدم حرقها في معركة خاسرة.. وكلتا الحالتين معاً تجسدان إشكالية كبرى تعاني منها معظم إن لم تكن كل الأحزاب في المنطقة العربية يمكن وصفها بـ»انفصام الشخصية«. ففي الوقت الذي نجد فيه أن أحزاب المعارضة تنادي بالديمقراطية وتنعم بها على الأقل جزئياً بوصفها وبقناعة منها المنهج الأسلم الذي يمكن من خلاله تهديم زنزانة الأسر والاستبداد، ومشاهدة النور وتلمس دروب الحرية، إلاّ أنها في الوقت ذاته لاتزال أسيرة لأفكار ونظيرات ضيقة لا تتفق والمنظور الديمقراطية الأوسع، الذي يستدعي من الكل هجر مرحلة السرية وأخاديدها البالية، والعيش في وضح النهار، وبرؤى ومواقف واضحة وشفافة من شأنها التأسيس الاستراتيجي للحياة الديمقراطية بمعالمها القانونية والأخلاقية والمؤسسية في ذاتها على الأقل لطمأنت الجماهير وكسب ثقتها، ومن خلال ذلك فقط يمكن سحب البساط من تحت أقدام النخب الحاكمة سيئة الصيت والسمعة كما تطرح وتدعي.
وفي هذا السياق كان أطراف اللقاء المشترك أمام فرصة تاريخية أخرى للمضي قدماً وطرح نفسها بكل وضوح في خوض معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة وتسجيل موقف يحسب لها تماماً بغض النظر عن حجم هذا الموقف ونتائجه، لكنه من الموسف القول إن أطراف اللقاء المشترك، ربما قد أضاعوا هذه الفرصة التاريخية وصادروا حقوق مئات الآلاف من أعظائهم وأنصارهم في ابداء رأيهم حول هذا المرشح، وأضعفوا الى حدٍ كبير من ثقة الجماهير بهذه الأحزاب، والأخطر من ذلك أنهم قد أنزلوا ضربة موجعة بتجربتنا الديمقراطية برمتها على نحو غدونا أمام هذه الانتخابات بأننا أمام تجربة ديمقراطية من نوع خاص قائمة على التعددية السياسية، ولكن من دون حزبية!
❊ استاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء
|