بقلم/ عبده محمد الجندي - أعود فاعترف أن يوم الاثنين الأسود قد فاجأني بأكبر صدمة في حياتي أجبرتني على الاجهاش بالبكاء بصوت عالٍ معاتباً في لحظة لا وعي أخي «علي» على مغادرة هذه الدنيا قبلي وأنا أكبر منه سناً وأكثر منه أمراضاً مزمنة وأقل منه حركة وسيراً على الأقدام، وقد كان بالنسبة لي أنموذجاً للأخ المثالي، كان يفرح إذا فرحت ويتألم إذا تألمت وكان يحرص على مصلحتي أكثر من حرصه على مصالحه الذاتية وكان بمثابة الأخ والصديق الذي اشدد به أزري واستعين به على مواجهة المحن والمصائب والأخطار، كيف لا.. وقد اتصل بي قبل يومين من وفاته يحذرني ويطلب مني توخي الحيطة والحذر من العواقب الوخيمة للعدوان..مشيداً بما أمثله له ولأسرتي وأبناء قريتي ومنطقتي ووطني من مكانة وقوة معنوية مهمة سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يأخذ روحه قبل روحي، لأنه لا يستطيع أن يعيش بدوني ولو لحظة واحدة.
تذكرت المقولة الحكيمة المنسوبة للإمام علي باعتباره واحداً من أحكم وأعلم حكماء وعلماء الدهر: أن على المرء أن يتمالك نفسه ويراجع أخطاءه في وقت الأزمات والشدائد المثيرة للإحباط واليأس وأن يغلب الأمل على اليأس والتفاؤل على الإحباط، وبعد أن راجعت ما يحدث للوطن والشعب من كارثة عدوانية لم يسبق لها مثيل لم أجد بدّاً من احتسابه شهيداً عند الله من ضمن آلاف الشهداء الذين قضوا نحبهم بسلاح العدوان الأرعن وضمن عشرات الآلاف من الجرحى الذين لايزالون ينتظرون في حياة أسوأ من الموت، لكنني لم أجد من المناسب أن استقبل العزاء اكتفينا بما حدث من عزاء شخصي في المنطقة الجندية خوفاً من أن لا يتحول العزاء الى مأتم في وقت أصبحت فيه بيوت الله أهدافاً للعدوان، ناهيك عن البيوت والقاعات الخاصة مثلها مثل غيرها من المنشآت العسكرية والمدنية الخدمية العامة والخاصة أهدافاً لتلك الطائرات ولما يقذف به الوطن والشعب من صواريخ الموت.
أيقنت أن حزني ودموعي ليست أنبل من دموع وأحزان أولئك الذين فقدوا أبناءهم في ميادين الشرف وميادين البطولة من المقاتلين الذين يدافعون عن سيادة وكرامة الوطن والشعب اليمني العظيم، ولا أيضاً أفضل من دموع الثكالى اللائي فقدن أبناءهن والآباء الذين فقدوا أبناءهم، وليست أيضاً بأفضل من الأرامل اللائي فقدن أزواجهن، ولا من المترملين الذين فقدوا زوجاتهم، ولا هي مختلفة عن الاخوة الذين فقدوا اخوانهم واخواتهم، ناهيك عن أولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة يستيقظون على مجازر جماعية لكافة أفراد أسرهم وربما ممتلكاتهم.. الكثير من أبناء هذا الشعب بل أغلبيته الساحقة، فقدوا أقاربهم ووظائفهم وأعمالهم وأملاكهم الثابتة والمتغيرة وتحولوا من أغنياء الى فقراء وسقطوا من الطبقة الوسطى الى الطبقة الدنيا وما بعد الفقر من منحدرات مظلمة بذل الحاجة وهوان الشقاء والبؤس.
أعود فأقول في أخي وصديقي الذي غادر عالم الفناء إلى عالم الخلود والديمومة أنه كان بحق من الشخصيات المثالية النادرة بدأ حياته السياسية وطنياً وحدوياً ناصرياً يؤمن بأن الوحدة اليمنية مقدمة لتحقيق الوحدة العربية الشاملة ويؤمن بأن الثورة اليمنية «26سبتمبر و14اكتوبر» إحدى الثمار العظيمة للثورة العربية الكبرى ثورة 23 يوليو الناصرية، عاش على هذه القناعة ومات متمسكاً بها يعتبر جمال عبدالناصر وصدام حسين ومعمر القذافي وأحمد بن بللا والمشير عبدالله السلال وابراهيم الحمدي وعلي عبدالله صالح أعلاماً عربية يستحقون الاحترام والتقدير والتعظيم وترجح إيجابياتهم على أية سلبيات تكون قد حدثت في فترات حكمهم ولم تكن السياسة بالنسبة له سوى مجموعة من القيم والمبادئ والمثل والمقدسات الوطنية والقومية والإسلامية وكان دائماً يردد على من حوله أن المناضل أول من يضحي وآخر من يغنم، لذلك كل من عرفه أو تعامل معه يدرك هذه الحقيقة ويدرك كيف كان يجمع بين البساطة والعظمة، تكمن بساطته في تواضعه وفي احتكاكه مع البسطاء وتعاونه معهم وتحسس ما يعانونه من المشاكل التي تضاعف من آلامهم وأحزانهم، فيبذل جهده لخدمتهم.
بدأ تجربته التعاونية في الاهتمام ببناء المدارس في وقت لا وجود فيه للمدارس، مكرساً جهوده لبناء مدرسة ناصر الابتدائية الإعدادية الثانوية كأول مدرسة في الجندية السفلى واستمر مديراً لها حتى سلم الإدارة لأحد الجامعيين الذين درسوا في هذه المدرسة هو الاستاذ محمد عبده علي الجندي لم يكتفِ بالبناء القديم الذي بُني على نفقة الأهالي ومساعدة التعاون بل سعى الى إدراجها في الخطة السنوية لبنائها من جديد على حساب مجموعة هائل سعيد أنعم جزاهم الله خيراً، لكنه استمر يناضل حتى انتقلت ادارة المدرسة للاستاذ الكبير قائد أحمد حسن عبادي.. أبى هذا الاستاذ المثالي إلا أن يسلم إدارتها لابن المؤسس طارق علي محمد الجندي الذي مازال يديرها حتى الآن.
لقد أضاع الكثير من الوقت وبدَّد الكثير من الإمكانات في هذه المدرسة وغيرها من المدارس لأنه كان ينظر للتعليم من زاوية ما لحق به من الحرمان الذي تعرض له جيل بأكمله ونظر لها من زاوية عشقه للتعاون، ولم يكلف نفسه عناء الحصول على مرتب رسمي من الدولة فترك المدرسة في ظروف صعبة بعد أن تدهورت مزارع القات وقلّت الأمطار وجفت موارد الزراعة وتدمرت سيارته، كان يحاول مواصلة الحياة الحركية والاجتماعية النشطة مشياً على الأقدام، استمر كذلك الى أن أصيب بمرض مزمن، ورغم أني سافرت به مع زوجته الى القاهرة للعلاج على حساب مجموعة هائل إلا أن صحته تدهورت فسافر مع زوجته الى القاهرة مرة ثانية على حساب رجل الأعمال محمد توفيق عبدالرحيم، عضو المجلس المحلي للمحافظة- منتخباً من مديرية التعزية.
أعود فأقول إنني فوجئت في أحد الأيام أنه أضاع وقتاً طويلاً من عمره في خدمة الناس في المجالين التعاوني والتربوي إلا أنه خرج من المدرسة بدون أي مرتب حكومي يعينه على تحسين أوضاعه المعيشية بعد أن تقدم به العمر وكثر الأبناء والبنات وضعفت المردودات المالية لزراعة القات ولم أجد ما أقدمه له سوى اعتباره واحداً من المرافقين وتجنيده في المنشآت برتبة مساعد، فكان ذلك هو دخله الشهري الوحيد.
كان -يرحمه الله- يكره العنصرية ويتعاطف بشدة مع فئة المهمشين الذين كانوا يجدون بيته مفتوحاً لهم ويجدون عنده استعداداً للجلوس معهم وحل مشاكلهم الاجتماعية، وكانت تربيته لأبنائه وبناته مثالية، كافح من أجل تعليمهم كفاح الأبطال حتى تخرجوا من الجامعات والمعاهد وتوظفوا جميعاً باستثناء واحد منهم وهو أصغرهم سناً الذي مازال بدون عمل.
أعود فأقول رحم الله الاستاذ علي محمد الجندي الذي كان يعمل بصمت ونكران للذات، الذي عرف عنه أنه كان شديد الصلة بالناس مضحياً من أجلهم يقدم مصالحهم العامة على مصالحه الخاصة، حيث كان دائماً يقصدني طالباً مني قضاء ما لديهم من المنافع والمشاكل الخدمية ولم أعرف عنه أنه قد وصل اليّ من تعز الى صنعاء قاصداً خدمة شخصية له أو لأولاده.. كانت القناعة عنده كنزاً لا يفنى وكان يعمل بالمثل القائل «سيد القوم خدامهم»، ومن فرط تواضعه لم أجده يوماً يزاحم على الجلوس في الكراسي الأمامية أو في المداكي الأمامية لأنه كان يؤثر الآخرين على نفسه ولا يجلس إلا في مؤخرة المكان حيث يجلس العامة من الناس، كان يحب الناس كثيراً وكان الناس الذين يعرفونه عن قرب يحبونه كثيراًَ لكنه لم يكن يسعى الى وظيفة ولا كان يسعى الى منصب يصل اليه بالتعيين أو بالانتخاب، فقد كان نجاحي في عضوية مجلس النواب شغله الشاغل ليس أثناء الانتخابات ولكن على مدار العام لأن الصلة بالهيئة الناخبة تحتم على المرء ألا يبتعد أو يبعد نفسه عن الناس بعد قضاء الحاجة، فيحضر أثناء الانتخابات ويغيب بعد الانتخابات.. هؤلاء لا يجدون لهم مستقبلاً في العملية الانتخابية، ولقد كان هو الرفيق الأول الذي اعترف له بجميل لا أنساه في حياتي حيث بادر بتهريبي من المدينة الى الريف وتكبد معي مشقة الاختفاء من سلطات الأمن وكان هو الذي يسخر علاقاته ليجد لي ولزملائي أماكن نلجأ اليها متكفلاً بتوفير ما كنا نحتاج اليه من الطعام ومن القات ومن السيجارة منظماً ما كنا نستقبله من الزيارات وما كنا نديره من اتصالات ومواصلات في ظروف أمنية صعبة أوصلت من وقعوا في الأسر الى حبل المشنقة بعد فشل حركة الـ15 من اكتوبر عام 1978م.
لقد كان الأول بين مجموعة من المناضلين الذين لازمونا أثناء هروبنا وحافظوا على أمننا حتى صدر قرار العفو العام.
وحينما غادرت ساحة العمل الناصري وقررت الالتحاق بالمؤتمر الشعبي العام أبى إلا مرافقتي رغم ثباته على ما بدأ به رحلته النضالية من قناعات أيديولوجية قومية ناصرية ورغم أنني تركت له حرية الاختيار، فقد كبر عليه مقتاً أن يسير في طريق مختلفة عن طريقي وفي درب مختلف عن دربي ليس لأنني أخوه ولكن لأنه مقتنع بأنني على صواب وبأن من وقفوا ضدي كانوا على خطأ، لأنه بحكم قرابته مني يعلم ما لا يعلمه أولئك الذين يشغلوه بحملات دعائية كيدية ورددوا اتهامات باطلة تحت مؤثرات قد تكون ناتجة عن عصبية مناطقية مقيتة ، وقد تكون ناتجة عن جهل ناتج عن تجهيل وقد تكون ناتجة عن تجاهل مع سبق الإصرار والترصد.
رحم الله هذا الرجل الذي اكتسب ثقافته الوطنية من التجربة والممارسة العملية على قاعدة العمل ونكران للذات تعكس ما لديه من قناعة بأن المناضل أول من يضحي وآخر من يكسب.
استطيع القول بأنه عاش مؤمناً بموقفه ورأيه وحبه لأبناء شعبه وما يستحقونه من الأمن والاستقرار في ظل الأهداف الاستراتيجية للثورة اليمنية المتمثلة بالحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة اليمنية، ولقد قيل لي أن أول معاناته بدأت بالانفعال الناتج عن سيطرة العدوان على القنوات الفضائية واستخدام ما لديهم من النفوذ لشطب القنوات المناهضة للعدوان مثل «اليمن اليوم» وقناة «المسيرة» وأي قنوات متعاطفة ومرتبطة بقمر النايل سات، فكان ذلك يتزامن مع ما يقوم به العدوان من ضربات قاتلة تتنافى مع قوانين السماء وقوانين الحرب المهتمة بحقوق الإنسان تحول الى الألم الى ذبحة قاتلة نظراً لما كان يحدث من انفعالات مؤثرة على رجل شرب في اليوم الواحد ثلاثة بواكت سيجارة.
أخلص من ذلك الى القول «كل نفس ذائقة الموت» وأن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يتفق عليها البشر رغم اختلافهم في الأجناس وفي الأوطان وفي المقومات القومية وفي الأديان وفي المعتقدات الايديولوجية، وأن أعقل الناس وأحكمهم من ينظر للموت من زاوية الحياة ومن ينظر للشر من زاوية الخير وأن ينظر للتشاؤم من زاوية التفاؤل والأمل، لأن الحياة تحتم علينا ألا نتوقف عند مرحلة معينة من المصاعب والعقبات التي تفرضها علينا المحن والنكبات العارضة وألا يغيب عنا ما نحن بحاجة اليه من التقييم والتقويم بدافع الحرص على تصويب ما نقترفه في حياتنا من الأخطاء لأن غرور القوة والنفوذ قد يدفعنا الى مواقف كارثية نندم عليها ولكن بعد فوات الأوان كالمواقف التي دفعت دول العدوان الى اتخاذ هذا القرار القاتل لشعب يطالب بحقه في الحياة والحرية والاستقلال والكرامة والديمقراطية والعدالة.
لقد اشعرني الموت المفاجئ لأخي وصديقي وأقرب الناس الى نفسي أن الحياة لا تستحق الدخول في تنازلات ولا تستحق التورط في نوع من العمالات الذميمة والقبيحة التي تمس أمن واستقرار ووحدة وكرامة وسيادة الوطن الذي نستظل بظلاله والشعب الذي نعتبر كرامته جزءاً لا يتجزأ من كرامته وأخلاقه وحقه جزء لا يتجزأ من الحقوق القيمية والنضالية الرفيعة.
الرحمة والغفران لفقيدنا الاستاذ علي محمد الجندي ولجميع شهداء الوطن الذين ضحوا بحياتهم من أجلنا، والشفاء للجرحى، للأمراض والمصابين بشكل مباشر وغير مباشر من صواريخ العدوان القاتل، والشكر والتقدير لمن عزونا بصورة مباشرة وغير مباشرة بحضور العزاء أو بقبول الاعتذار والتقدير والاحترام لما كتبه الاستاذ المهندس عباس عبدالعزيز القاضي من كلمة حق وفاءً لرجل صادق غادر الحياة الدنيا الفانية الى الحياة الأخرى الباقية، واثقاً أن نجله الاستاذ توفيق علي محمد الجندي الكاتب المعروف والمدير العام في اللجنة العليا للانتخابات هو الذي سيكتب القصة الحقيقية لرجل مغمور رغم مكانته الرفيعة في أوساط محبيه.
|