الثلاثاء, 21-أغسطس-2007
‬رصد‮: ‬عبدالعزيز‮ ‬الويز -
اشتقنا‮ ‬لزيارة‮ ‬البحث‮ ‬الجنائى‮ ‬في‮ ‬العاصمة‮ ‬فكان‮ ‬شوقاً‮ ‬لم‮ ‬يلبث‮ ‬غير‮ ‬عشيةٍ‮ ‬وضحاها‮ ‬حتى‮ ‬وجدنا‮ ‬ذواتنا‮ ‬في‮ ‬بحرٍ‮ ‬لجي‮ ‬يغشاه‮ ‬موج‮... ‬لم‮ ‬يضف‮ ‬له‮ ‬شارع‮ ‬العدل‮ ‬من‮ ‬اسمه‮ ‬ما‮ ‬يميزه‮ ‬عن‮ ‬بقية‮ ‬الفروع‮.‬
‮قبل أن نولي وجوهنا باتجاه زيارة بوليس الآداب أعددنا طموحاً يناطح السحاب وتفاؤلاً لم يستوعبه المكان المنسدل من قطاع الأمن، وجئنا على قدرٍ نطوي بخطواتنا المسافات، ونراهن الزمن على أن لانرى في البحث إلاَّ السمين وما ينفع الناس، فكان الزبد والغث حصيلة لم نستطع‮ ‬أن‮ ‬نغض‮ ‬أقلامنا‮ ‬عنهما‮ ‬وقد‮ ‬اعتنقنا‮ ‬الأمانة‮ ‬مبدأً‮ ‬وديناً‮.‬
ومع‮ ‬هذا‮ ‬لايزال‮ ‬لدينا‮ ‬متسع‮ ‬من‮ ‬الأمل‮ ‬في‮ ‬إصلاح‮ ‬الاعوجاج‮ ‬وإن‮ ‬حنظلت‮ ‬نخلاتنا‮.‬
ممنوعات
^ يحتاج الصحفي للوصول إلى حقيقة ما يعتمل في سراديب البحث الجنائى من أداء وما تؤدى من مهمات في نطاق الواجب الأمني ان يحيط علمه بشيء من مهارات ضباط البحث وحذلقات المخبرين التي لايترتب عليها أذى لأحد، حيث ان المعلومة بهذه الأماكن ليست سهلة المنال في ظل أبواب موصدة‮ ‬وسياج‮ ‬أمني‮ ‬مشدد‮ ‬وملفات‮ ‬لايمكن‮ ‬قراءتها‮ ‬إلاَّ‮ ‬بكلمة‮ ‬مرور‮.‬
هذا‮ ‬ما‮ ‬شعرت‮ ‬به‮ ‬وما‮ ‬كرَّمتني‮ ‬به‮ ‬الإدارة‮ ‬العامة‮ ‬للأدلة‮ ‬الجنائىة‮ ‬عند‮ ‬زيارتي‮ ‬لها‮ ‬في‮ ‬شارع‮ ‬ذهبان‮ ‬شمال‮ ‬غرب‮ ‬العاصمة‮..‬
فأمام‮ ‬مبنى‮ ‬يشع‮ ‬حُسناً‮ ‬وبهاءً‮ ‬ويكاد‮ ‬أن‮ ‬يكون‮ ‬قصراً‮ ‬لفرط‮ ‬ما‮ ‬أُنفق‮ ‬على‮ ‬شياكته،‮ ‬كانت‮ ‬منافذ‮ ‬العبور‮ ‬إلى‮ ‬الداخل‮ ‬تشهد‮ ‬اغلاقاً‮ ‬محكماً‮ ‬وحراسة‮ ‬يقظة‮ ‬بحيث‮ ‬لايمكن‮ ‬أن‮ ‬يتسرب‮ ‬من‮ ‬الداخل‮ ‬حتى‮ ‬همساً‮.‬
اقتربت من أحد جنود الخدمة أسأله إذا كان بإمكاني العبور إلى الداخل فكانت إجابته مليئة باستفهامات شعرت معها بحاجتي إلى من يدعو لي بالثبات وأنا أُسأل، فالأسئلة كانت داكنة والمقابلة اختباراً عصيباً في حضرة جندي متروس بقائمة ممنوعات، فهمت منها أني قد لا أعود إليه بعد دخولي خلال هذا العام، فالأداء داخل المبنى مضبوط لاستقبال عناصر خلايا الإرهاب وقضايا أمن الوطن والدولة وما شابه ذلك من قضايا الاستضافة طويلة المدى، فكان هذا كافياً لأن أتنازل عن رغبتي بالدخول والابتعاد عن المبنى مائة قدم.
فيش‮ ‬الفندم‮ ‬الصغير
^ في ركن قصي بعيداً عن المكتب الجنائى كان المناخ ملائماً لتواجد غير مشبوه ولا مشموم، سارعت إلى هناك فوجدت مبنى صغيراً متصلاً بسور مبنى إدارة الأدلة أشبه بنوبة حراسة تتبطنه حجرة تم تخصيصها لإجراءات الحصول على صحيفة الحالة الجنائىة (الفيش والتشبيه)، على الحجرة يتزاحم حشد من المواطنين يشكلون طابوراً اعوج لم يستقم طيلة بقائي، الكثير منهم كما حدثوني أتت بهم إلى هذا المكان قرارات السفر إلى بلاد الغربة ويأتي تواجدهم هذا الذي يخضعون فيه أنفسهم لفحص البصمة ضمن إجراءات السفر المطلوبة، إجراءات الفحص ميسرة وليس فيها غير الانتظار إلى اليوم التالي والعودة لاستلام النتيجة إلاَّ لمن استطاع أن يدبر نفسه فلا تأجيل عليه أو عودة.. والسعيد من أوتي صحيفته الجنائىة بيمينه ممهورة بختم أزرق مكتوب فيه »ليس له سوابق جنائىة«.
استلفت‮ ‬انتباهي‮ ‬في‮ ‬زحمة‮ ‬إجراءات‮ ‬الحصول‮ ‬على‮ ‬الصحيفة‮ ‬ولد‮ ‬صغير‮ ‬في‮ ‬سن‮ ‬الأحداث‮ ‬يعلق‮ ‬على‮ ‬رقبته‮ ‬خيطاً‮ ‬تتدلى‮ ‬منه‮ ‬بطاقة‮ ‬تعريفية‮ ‬تؤكد‮ ‬انه‮ ‬من‮ ‬الموظفين‮.‬
(الفندم) الصغير كان يشرف في عمله على تنظيم الطابور، ويقف عند الباب لمنع المتطفلين من تجاوز الدور، وفي بعض المرات يترك ذلك كله ويستلقف بعض الناس ممن لايطيقون نظام الطوبرة والانتظار وينجز لهم معاملاتهم بسرعة آنية يستحق عليها الأجر، وعلاوة على ذلك وجدته أحق بجائزة‮ ‬اصغر‮ ‬أفندم‮ ‬في‮ ‬سلك‮ ‬الوظيفة‮ ‬شاهدته‮ ‬في‮ ‬حياتي‮ ‬رغم‮ ‬أنف‮ ‬الحاسدين‮.‬
مغارات‮ ‬تقشعر‮ ‬بالخوف
^ في اليوم الثاني من أيام البحث اتجهت إلى شارع العدل حيث تتواجد هناك الإدارة العامة للبحث الجنائى وإدارة فرع الأمانة، مع الخطوة الأولى للمرور من أمام البوابة التقيت عسكرياً يزمجر في وجه زميله مستلم البوابة بخصوص مواطن غادر قبل أن يأخذ منه المصروف وكان حين اعتلى‮ ‬صوته‮ ‬بكلمة‮ ‬المصروف‮ ‬مهووس‮ ‬الحركة‮ ‬والأعصاب‮.‬
تابعت خطواتي فإذا بي أشاهد مباني منفوشة لم تختلف في الشكل والمظهر مع صور من شاهدت في الساحة، كان الوضع موحشاً وأنا أصول وأجول داخل تلك المباني أتحسس نموذجية البحث وروعة الأداء، إذ لم أجد داخل تلك المباني ما يرقى بها عن المغارات، مكاتب مسكونة بغياب الموظفين ووحشة المكان وموعودة بنزول الأشباح فيها بأقرب وقت وأخرى منها مغلقة ربما للتحديث أو التشييع الأخير، وقليل منها ما كان حية بدوام عليل أحسنها على الاطلاق مكتب المدير العام الذي كان غائباً حينها في اجتماع خاص كما اخبرني مدير مكتبه العقيد.
ساءني‮ ‬الحال‮ ‬الذي‮ ‬عليه‮ ‬رأيت‮ ‬مكاتب‮ ‬البحث‮ ‬تقشعر‮ ‬بالخوف‮ ‬وفقدان‮ ‬الدوام‮ ‬لأهميته‮ ‬صباحاً،‮ ‬فماذا‮ ‬لو‮ ‬كنت‮ ‬زرتها‮ ‬مساءً‮ ‬والكهرباء‮ ‬مطفأة‮ ‬لكان‮ ‬ذلك‮ ‬عجَّل‮ ‬بمنيتي‮.‬
وراء‮ ‬كل‮ ‬ضابط‮ ‬داعية
^ في عمل رجال البحث واجبات مسئولية هي في ضمير المهنة ومنطق القانون ومفهوم الواجب الأمني عظيمة ومقدسة وأعظم منها الالتزام بها بروح عالية بدون الحاجة إلى الوعظ وخطب الترغيب وعبارات الترجي والاسترحام بقصد نفخ الهمة.
قادني لأقول هذا موقف شاهدت به ضابطاً يتشفع لمواطن مسجون عند ضابط آخر.. المواطن مودوع بالسجن دون إدانة مثبتة كما ظهر في شفاعة ضابط المعروف الذي استخدم لمخاطبة زميله وترجّيه مفردات من حق أهل الجنة ختمها بدعاء مبروك، صدقت فيه ملامحه لكي يطلق سراح المسجون ظلماً، وبعد تلك الشفاعة ومأثوراتها ترقق حتماً قلب الضابط الآخر واعداً باستكمال إجراءات الإفراج اليوم.. وهكذا أصبح الأبرياء بحاجة إلى داعية وراء كل ضابط بحيث يذكّره بالآخرة والجنة والنار ليؤدي واجبه بدون ضحايا أو إثم.
كوابيس‮ ‬تطير‮ ‬العقل
‮^ ‬أفرجت‮ ‬عن‮ ‬نفسي‮ ‬من‮ ‬ضيق‮ ‬الدوران‮ ‬داخل‮ ‬مبانٍ‮ ‬غنية‮ ‬بكوابيس‮ ‬تطير‮ ‬العقل‮ ‬واتجهت‮ ‬إلى‮ ‬الساحة‮ ‬بحثاً‮ ‬عن‮ ‬أوكسجين‮ ‬آخر‮.‬
في الساحة كانت تفوح نشادر جرائم سرقات من أفواه بعض الموجودين، تأتي في مقدمتها الموبايلات لتحتل الرقم الأول من حيث الانتشار، ولرجال البحث في هذا الجانب جهود في متابعة أشرار هذه الجريمة والقبض عليهم لاتنتهي.
وشكا إليَّ مواطن من ذوي النعمة أثناء التقائي به في الساحة أنه من ضمن ضحايا سرقة التلفونات إلاَّ أنه كما قال لم يحصل على تلفونه حتى الآن رغم العثور على السارق وأخذ التلفون منه، وأن حضوره اليوم جاء بناءً على وساطة إلى أحد رجال البحث ليستلم منه تلفونه بعد أن‮ ‬ضبطه‮ ‬واستبقاه‮ ‬لديه‮ ‬ربما‮ ‬للاستخدام‮ ‬الشخصي،‮ ‬وعن‮ ‬حقه‮ ‬في‮ ‬متابعة‮ ‬السارق‮ ‬لينال‮ ‬عقابه‮ ‬رفض‮ ‬الاستعداد‮ ‬لعمل‮ ‬ذلك‮ ‬وأنه‮ ‬لا‮ ‬يريد‮ ‬غير‮ ‬تلفونه‮ ‬وبس‮.‬
أول‮ ‬السرقة‮ ‬بيضة
^ إذا فكرت فتذكر العاقبة فأول السرقة بيضة... الخ، هذه العبارة ليست مقتضبة من كتاب صيد الخاطر لابن قيم الجوزية، ولكنها فقرة حميدة التقيت بها مكتوبة بمادة الرنج على ظهر جدار عند مدخل مبنى إدارة بحث الأمانة، فهمت منها حساً أمنياً حريصاً على نظافة اليد والبطن والرجل‮.‬
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 01:44 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-4407.htm