أحمد الحبيشي - عندما يحضرنا العيد الثامن والأربعون للاستقلال ، الذي تزامن مع رحيل آخر جندي من قوات الاستعمار البريطاني، تبرز في الذاكرة الوطنية لشعبنا اليمني أربعة مشاهد تاريخية ذات دلالات ومعانٍ عميقة، ترمز إلى عظمة ذلك الإنجاز الوطني الذي تحقق يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م تتويجاً لكفاح وطني تحرري طويل خاضه شعبنا في الجنوب اليمني المحتل وعمده بالدماء الزكية والتضحيات الجسيمة من أجل الحرية والاستقلال، واستعادة الوجه الشرعي للوطن اليمني الواحد بعد عقودٍ طويلة من الاستبداد والاستعمار والتجزئة.
في الخامسة من مساء الأربعاء الموافق 29 نوفمبر قامت وحدة صغيرة من سلاح الجو الملكي البريطاني تمثل الدفعة الأخيرة من جنود قوات الاحتلال الاستعماري بإنزال العلم البريطاني في منطقة المملاح بحي خور مكسر، والانتقال بعد ذلك بواسطة طائرة هيلوكبتر حربية إلى حاملة الطائرات البريطانية (إيجل) التي كانت تنتظر وصول هذه الطائرة بمن عليها من جنود في عرض البحر، إيذاناً بانتهاء حقبةٍ طويلة من الاستعمار للجنوب اليمني المحتل دامت 129 عاماً.
بعد ساعات قليلة، وتحديداً في تمام الساعة الثانية عشرة ودقيقة واحدة من صباح يوم الخميس الموافق 30 نوفمبر تمّ في مدينة التواهي ومدينة الشعب التي كانت تسمى (مدينة الاتحاد) رفع العلم الوطني لدولة جديدة ذات نظام جمهوري حملت اسم اليمن على أنقاض أربعة كيانات انفصالية ضمت 22 سلطنة وإمارة وولاية ومشيخة، هي دولة اتحاد الجنوب العربي وسلطنة حضرموت الكثيري وسلطنة حضرموت القعيطي وسلطنة المهرة وسقطرى حيث تمّ دمج هذه الكيانات الأربعة في إطار دولة واحدة اسمها ((جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية)) والتي تحوّلت فيما بعد إلى ((جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)) كخطوةٍ على طريق الوحدة اليمنية، بما هي الهدف الاستراتيجي للثورة اليمنية (26 سبتمبر ـــ 14 أكتوبر))، مع الأخذ بعين الاعتبار ان أعلام الكيانات الاتحادية والسلاطينية الأربعة خارج مدينة عدن، كانت قد نزلت عقب سقوط هذه المناطق بيد الجبهة القومية قبل بضعة اشهر من انسحاب القوات البريطانية من عدن وإعلان الاستقلال ، بصرف النظر عن وجهات النظر المختلفة حول ظروف وملابسات سقوط هذه المناطق بيد الجبهة القومية دون غيرها من فصائل ثورة 14 اكتوبر ، وتحالف الجيش الاتحادي التابع لدولة اتحاد الجنوب العربي مع الجبهة القومية في الحرب الأهلية التي شهدتها مدينة عدن خلال الفترة 3 ــ 6 نوفمبر وانتهت بتصفية جبهة التحرير والتنظيم الشعبي من مدينة عدن التي استولت عليها الجبهة القومية بدعم من الجيش الاتحادي في تلك الحرب الأهلية وتمهيداً لانفراد الجبهة القومية بالتفاوض مع بريطانيا بشأن الاستقلال وتسلم السلطة وإقامة نظام الحزب الواحد، وما ترتب على ذلك من أثمان باهظة دفعتها الجبهة القومية بدماء قادتها ومناضليها نتيجة للإنقسامات الداخلية التي أصابتها كمحصلة لاختلاف المواقف والرؤى حول مستقبل العلاقة بين الجبهة القومية وقيادات الجيش الاتحادي التي تحالفت معها في الحرب الأهلية ضد جبهة التحرير والتنظيم الشعبي ، ثم أصبحت شريكة لها في السلطة بعد الاستقلال في إطار نظام الحزب الواحد..
بعد 22 عاماً من ذلك اليوم التاريخي، احتضنت مدينة عدن الباسلة مشهداً تاريخياً ثالثاً تجسد بالتوقيع على اتفاق 30 نوفمبر 1989م الوحدوي بين قيادتي شطري اليمن ممثلة بالأخ الرئيس علي عبدالله صالح والأخ علي سالم البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، وسط تأييد واسع وغير مسبوق من كافة جماهير الشعب اليمني وقواه الوطنية باستثناء فرع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذين عارضوا هذا الاتفاق الوحدوي وناهضوا الإجراءات التنفيذية المكملة له بصراحة ووضوح.
وبعد ستة شهور من ذلك المشهد التاريخي، وتحديداً في ظهيرة يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م، ارتفع في ذات المكان الذي شهد ارتفاع علم الاستقلال قبل 22 عاماً، العلم الوطني للجمهورية اليمنية الموحدة، إيذاناً بتدشين مرحلة تاريخية جديدة من النضال الوطني على طريق بناء يمن حر ديمقراطي موحد.. وهو الشعار الذي ارتفع لأول مرة في مدينة عدن منتصف الخمسينيات لمواجهة المشاريع الاستعمارية التي استهدفت تجزئة الجنوب المحتل وطمس هويته اليمنية وتلفيق هويات انفصالية بديلة، أخذت مداها عبر تسويق مشروع اتحاد الجنوب العربي ومشروع دولة حضرموت الكبرى.
وحين يحتفل شعبنا اليمني العظيم بالعيد الأربعين للاستقلال الذي أنجزته ثورة 14 أكتوبر كامتداد لثورة 26 سبتمبر، تبرز في الذاكرة الوطنية الحية هذه المشاهد التاريخية الأربعة التي احتضنتها مدينة عدن اليمنية الباسلة، بما تنطوي عليه من دلالات ومعانٍ عظيمة لملحمة كفاحية وطنية اجترحها شعبنا اليمني وطلائعه الوطنية عبر نضاله الطويل من أجل الحرية والاستقلال والوحدة.
لا ريب في أنّ القراءة الموضوعية لهذه المشاهد التاريخية العظيمة تستوجب تأمل المرحلة التاريخية الجديدة التي بدأت يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م برحيل آخر جندي استعماري وارتفاع علم ((جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)) التي استعادت الهوية اليمنية للجنوب المتحرر من الاستعمار، بعد أن كنّست وإلى الأبد مشروع دولة اتحاد الجنوب العربي، ثمّ تتوجت يوم 22 مايو 1990م بارتفاع علم الجمهورية اليمنية الموحدة الذي يرمز إلى استعادة وحدة الوطن اليمني أرضاً وشعباً كثمرة لوحدة النضال الوطني الذي خاضه شعبنا من أجل الاستقلال والوحدة.. بمعنى أنّ الاستقلال الوطني الناجز كان الطريق الوحيد للوحدة، وهو ما يستدعي تسليط الضوء على فصول تاريخية حاسمة من معارك الدفاع عن الوحدة ، خاضها الوطنيون اليمنيون ضد مشاريع الاستقلال المزيف التي سعى الاستعمار وركائزه إلى تسويقها بهدف طمس الهوية اليمنية للجنوب المحتل، وبناء دويلات انفصالية شكلية في سياق المخططات الاستعمارية الرامية إلى سلخ الجنوب المحتل عن الوطن اليمني وتلفيق هويات بديلة عنه. مع الأخذ بعين الاعتبار ان المدافعين الأوائل عن قضية الوحدة اليمنية اجترحوا تضحيات كبيرة بدون مقابل، وبدون أن يطالبوا بأراضٍ وامتيازات مقابل دفاعهم البطولي عن الوحدة .
بوسعي القول إنّ من الصعب إعادة اكتشاف الأبعاد الوطنية للمشاهد التاريخية الأربعة التي أشرت إليها سابقاً بدون التعرف على أبرز المحطات التي مهدت لهذه المشاهد عبر مسار وحدة النضال الوطني.. وهي المحطات التي تمحورت حول قضيتي الاستقلال الناجز والوحدة اليمنية في مواجهة مشاريع استعمارية استهدفت تمرير استقلال شكلي، وتسويق مشروع دولة الجنوب العربي ومشروع دولة حضرموت الكبرى، وهما مشروعان انفصاليان لدولتين ((مستقلتين)) في الجنوب اليمني، كان يتم التسويق لهما من خلال ثقافة سياسية انفصالية تمثلت في تهافت بعض القوى السياسية والمنابر الاعلامية على المطالبة باستقلال عدن والمحميات الشرقية والغربية، ودمجها في دولةٍ مستقلةٍ تحمل هوية ((الجنوب العربي))، وهي ثقافة ملتبسة ومأزومة واجهها الوطنيون اليمنيون بثقافة وطنية يمنية وحدوية قامت على تربتها معارك الدفاع الأولى عن الوحدة اليمنية في مواجهة المشاريع الانفصالية التي استهدفت سلخ الجنوب اليمني المحتل عن الوطن اليمني الواحد.
منعطف حاسم
في بداية الخمسينيات، وعلى إثر تأميم حكومة مصدق الوطنية للعمليات النفطية في إيران، أنشأت شركة »بريتيش بتروليوم« مصافي الزيت البريطانية في عدن، التي أدى قيامها إلى زيادة وزن الطبقة العاملة نوعاً وعدداً. وقد ترافق توسع القاعدة العمالية مع ظهور بعض الأشكال النقابية في الفترة 1951 - 1953م مثل رابطة العمال والفنيين عام 1951م، ونقابة عمال وموظفي خطوط عدن الجوية، وجمعية موظفي سلاح الطيران عام 1953م.
ومما له دلالة أعمق، بهذا الصدد، أنّ أول شرارة أشعلت إضرابات مارس المجيدة عام 1956م كانت الإضراب الذي قام به عمال وموظفو (بيت البس) وهي أكبر شركة تجارية أجنبية في عدن وجنوب الجزيرة العربية، احتجاجاً على طرد هذه الشركة للشهيد محمد ناصر محمد، عقاباً له على دوره البارز في تأسيس نقابة عمال وموظفي شركة (البس) وانتخابه سكرتيراً لها. وقد ألهب النصر الذي حققه العمال بإعادته إلى عمله، حماس العمال في الشركات الأخرى، وشجعهم على المطالبة بحقوقهم المشروعة ، وفيما بعد ثابرت العناصر الوطنية الناشطة على تقوية قنوات الاتصال بالعمال والفئات الأخرى كالطلاب والنساء، وساعدت على تنظيمها وصياغة مطالبها وتوعيتها بالقضية الوطنية عن طريق المحاضرات التي كانت تُلقى في تجمعات العمال في البراقات الشهيرة بقرب ميناء التواهي، حيث جرى هناك ــ لأول مرة ــ الاحتفال بعيد أول مايو، ورفع شعار الاستقلال والوحدة اليمنية إيذاناً بدخول العمل الوطني مرحلة حاسمة ونوعية.
لم يكن من قبيل الصدفة أن تنفجر، بعد إضرابات مارس العمالية، حركة واسعة من الإضرابات الطلابية ضد السياسة التعليمية، التي شملت جميع المدارس الحكومية، بالإضافة إلى إضرابات عمال محلج الكود في أبين، والمظاهرات الشعبية الضخمة التي انطلقت في شوارع عدن في مايو 1956م احتجاجاً على زيارة اللورد لويد جورج وكيل وزارة المستعمرات البريطانية لعدن، والإضراب العام في أبريل 1958م، ضد فتح أبواب الهجرة الأجنبية إلى عدن من بلدان الكومنولث، وانتفاضة أكتوبر 1958م ضد انتخاب المجلس التشريعي المزيف الذي تزامن مع الاعلان عن مشروع الحكم الذاتي لعدن ومشروع اتحاد امارات الجنوب العربي .. بالاضافة الى إضراب عمال أمانة ميناء عدن لمدة 14 يوماً في أواخر 1959م، ثم الإضراب العام في أغسطس عام 1960م ضد قانون منع الإضراب.
وفي عام 1958م اندلعت انتفاضة اكتوبر التي وقعت في اليومين الاخيرين من اكتوبر في مواجهة مشروع الحكم الذاتي لعدن ومشروع الاتحاد الفيدرالي لإمارات الجنوب الذي كانت بريطانيا آنذاك تعد العدة لتنفيذه قبل الاعلان عنه والبدء به عام 1959م..
وقد عاش مواطنو مدينة عدن لحظات رهيبة خلال هذه الانتفاضة التي تمثلت بالاضرابات والمظاهرات العارمة ضد هذين المشروعين الاستعماريين، ما دفع الادارة الاستعمارية الى فرض حالة الطوارئ واعلان حظر التجول ونشر طائرات الهيلوكبتر والدبابات في سماء المدينة وشوارعها . حيث سقط العشرات من الضحايا والشهداء وامتلأت المستشفيات والمعتقلات بالجرحى والمعتقلين ، فيما تم نفي المئات من ابناء المناطق الشمالية الذين استهدفهم كل من مشروع الحكم الذاتي لعدن ومشروع اتحاد امارات الحنوب العربي.
كان لحركة الإضرابات تأثيرها الواضح على أساليب الكفاح السياسي، حيث أدى دخول الطبقة العاملة، كقوةٍ سياسة منظمة، في نقابات، إلى رفد العملية الوطنية التاريخية لشعبنا اليمني بطاقات كفاحية هائلة والارتفاع بها إلى مستوى أعمق. وإذا كان أقصى ما كانت تطلبه الفعاليات السياسية في الجنوب اليمني المحتل، قبل قيام النقابات، هو المطالبة بجعل اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللغة الإنجليزية، فقد ارتفعت عالياً بعد حركة الإضرابات العمالية، شعارات الاستقلال والوحدة اليمنية التي نقلت الحراك السياسي من الخطب والعرائض إلى الانتفاضات والمظاهرات والإضرابات.
وبطبيعة الحال لم تقف السلطات الاستعمارية موقف المتفرج من هذه التطورات، وهي التي كانت تعمل على درئها منذ انبلاج خيوطها الأولى، إيذاناً بالتحام العمل النقابي بالعمل الوطني.. فقد حاولت السلطات الاستعمارية القضاء على الحركة النقابية، وضرب حركة الإضرابات مستخدمة سلاح النفي ضد العمال من أبناء الشطر الشمالي من الوطن، والفصل من الوظائف الحكومية، فيما غصت الشوارع بالشرطة المسلحة التي أطلقت نيرانها على المتظاهرين من العمال والطلبة، وسقط بسبب ذلك العديد من الشهداء والجرحى.
في السياق ذاته قامت السلطات الاستعمارية باعتقال مئات العمال ونسقت مع أصحاب الصحف لطرد الكتاب الوطنيين منها، وحظر نشر كتاباتهم، وعملت بالتنسيق مع أصحاب الشركات الأجنبية الاحتكارية لتطويق هذا المارد الوليد عبر نشر الإشاعات المغرضة وإثارة المشاعر الطائفية والقبلية والمناطقية، بهدف بث الفرقة بين صفوف العمال والقوى السياسية الوطنية.
على إثر ظهور الطبقة العاملة اليمنية في ميدان العمل السياسي الوطني وارتفاع شعار ((الوحدة اليمنية)) و((الاستقلال)) في إضرابات مارس 1956م العمالية، برز مشروع اتحاد إمارات الجنوب العربي، وذلك بهدف محاصرة شعار الوحدة اليمنية، وسلب الهوية اليمنية للجنوب المحتل عبر إيجاد استقلال شكلي وهوية بديلة باسم (الجنوب العربي).. وقد كانت سلطنات وإمارات محمية عدن الغربية، التي وقعت معاهدات حماية وصداقة مع الاستعمار البريطاني، تشكل العمود الفقري لمشروع الاتحاد الفيدرالي، فيما بقيت سلطنات محمية عدن الشرقية (حضرموت - المهرة - سقطرة) خارج إطار هذا الاتحاد الفيدرالي، حيث كان الاستعمار البريطاني يخطط لإقامة دويلة فيدرالية في المنطقة الشرقية مستقلة عن الجنوب.
تزامن ظهور مشروع الاتحاد الفيدرالي، في مواجهة شعار الوحدة، مع انحسار موجة العداء للعمل الحزبي، حيث شهدت المنطقة تنامياً ملحوظاً لنشاط الأحزاب القومية واليسارية التي قامت بنشاط فكري بارز من خلال نشر أدبياتها، والقيام بالدعاية الواسعة لثورة 23 يوليو المصرية في شمال الوطن وجنوبه، ورفعت هذه الأحزاب، بقوة، شعارات الاستقلال الناجز والوحدة اليمنية.
على صعيد الحياة السياسية للشطر الشمالي من الوطن، وفي غمرة تنامي الكفاح الوطني والقومي التحرري اتسعت الإضرابات والمظاهرات والانتفاضات الشعبية في الشمال والجنوب على السواء، لتضع العملية الوطنية التاريخية المعاصرة للشعب اليمني أمام أبواب مرحلة جديدة وحاسمة.. فقد كانت الأوضاع السياسية في شمال الوطن تزداد تردياً، في خضم سخط شعبي عارم، حيث اندلعت في 22 سبتمبر 1962م إضرابات الطلاب في مدارس مدينتي تعز وإب، فيما سيق إلى سجون الإمام آباء الطلاب من الفلاحين والمزارعين الفقراء، عقاباً لهم على الانتفاضات التي قام بها أبناؤهم.
وليس من قبيل الصدفة أن تنتهي مظاهرات وإضرابات طلاب المدارس في شمال الوطن في صبيحة 23 سبتمبر 1962م، ليبدأ في عدن، بجنوب الوطن المحتل، الزحف الشعبي الكبير على المجلس التشريعي في 24 سبتمبر 1962م احتجاجاً على مشروع دمج عدن في الاتحاد الفيدرالي السلاطيني الاستعماري الذي كان يناقشه المجلس التشريعي في جلسته التي انعقدت في ذلك اليوم تمهيداً لإقراره. وفي جميع هذه الانتفاضات واجه شعبنا صنوف الاضطهاد والإرهاب والقمع، بدءاً بحمامات الدم التي كان يقيمها الحكم الإمامي المستبد في الشمال، ومروراً باعتقال المئات من الوطنيين في السجون والمعتقلات في جنوب الوطن، وانتهاء بإبعاد المئات من أبناء الشمال إلى مناطق الأطراف.
في غمرة هذا الوضع المتصاعد بالغضب والألم.. وبعد يومين من الزحف الشهير على المجلس التشريعي بعدن احتجاجاً على مشروع ضم عدن الى اتحاد الجنوب العربي، ومحاكمة آباء المتظاهرين من طلبة المدارس في مدينتي تعز وإب.. وفي الوقت الذي لم تزل فيه باقية آثار الإرهاب والملاحقات والغازات المسيلة للدموع، وآهات النساء والأطفال والرجال والأسر المكلومة بفقد شهدائها واعتقال آبائها وأبنائها، وبينما كانت عدن وقرى وروابي ووديان وسهول اليمن شمالاً وجنوباً تغفو في هجعتها، ومن حولها الزمن الرابض فوق مدن الخوف ودخان القنابل المسيلة للدموع.. في غمرة هذا الوضع استيقظ شعبنا، فجر يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، ليُعلنَ قيام أول جمهورية في شبه جزيرة العرب ، ليبدأ رحلة جديدة في سياق العملية الوطنية التاريخية المعاصرة في اليمن.
ثورة واحدة من أجل وطن واحد
لم يكن ما حدث صباح يوم 26 سبتمبر 1962م حركة فوقية تستهدف إصلاح اختلالات في هياكل السلطة، أو تعديل توازنات القوى والمصالح، التي تدير مفاعيل الدولة ووظائفها، على نحو ما ذهب إليه بعض الذين حاولوا التقليل من الطابع الثوري لذلك الحدث الذي غيَّر بشكل حاسم مجرى التاريخ الوطني الحديث للشعب اليمني.
منذ اللحظات الأولى لإعلان البيان الأول للثورة، لم تـعُد القضية التي حركت نخبة طليعية وشجاعة من الضباط الأحرار، لإسقاط النظام الإمامي الكهنوتي، وإقامة أول نظام جمهوري في شبه جزيرة العرب، ملكاً لهم وحدهم، أو لتنظيمهم السري الذي كان له شرف المبادرة في اقتحام حصون وقلاع الاستبداد والاستيلاء على الإذاعة.. فقد تطورت الأحداث منذ ظهور شمس السادس والعشرين من سبتمبر 1962م ليجد الشعب اليمني - شمالاً وجنوباً - نفسه أمام عملية ثورية وطنية شاملة وضعت في صدارة أهدافها مهمة تعزيز الكفاح من أجل تحرير الشعب اليمني من الاستبداد والاستعمار على طريق استعادة وحدته الوطنية وبناء المجتمع الديمقراطي.. وقد أنعشت الثورة آمال الملايين من أبناء الشعب اليمني في شمال الوطن الذي تحرر من الحكم الإمامي الكهنوتي، وجنوبه الذي كان يرزح تحت نير الاستعمار البريطاني في آنٍ واحدٍ، إيذاناً بولادة مشروع وطني شامل للتغيير، تشارك فيه كافة القوى الشعبية التواقة إلى بناء يمن حر ديمقراطي موحد، يُعيد للوطن المجزأ وجهه الشرعي الواحد، ويفتح أمامه آفاق الحرية والتقدم والتجدد الحضاري.
ولأنّها كذلك، فإنّ مسؤولية قيادة الثورة والدفاع عنها وتحقيق أهدافها الوطنية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية لم تعـُد تعني - فقط - أولئك الرجال الذين غامروا بحياتهم، حين أطلقوا الشرارة الأولى للثورة، بل أضحت مسؤولية وطنية تاريخية للشعب اليمني بأسره، وللحركة الوطنية اليمنية بمختلف قواها وفصائلها وتياراتها الفاعلة في عموم الوطن شمالاً وجنوباً.. ولعل ذلك يفسر تلاحم الوطنيين اليمنيين الذين هبوا للدفاع عن الثورة والجمهورية، وقدموا أرواحهم من أجل أن تبقى راياتها وبيارقها خفاقة . وكان بينهم آلاف المتطوعين الذين انطلقوا من عدن وسائر جنوب الوطن المحتل للدفاع عنها، في أروع تجسيد عملي لوحدة النضال الوطني للشعب اليمني الذي التف حول ثورته، ودافع عن مبادئها وأهدافها.
على هذا الطريق جاءت ثورة 14 أكتوبر 1963م، بعد عام واحد من قيام ثورة 26 سبتمبر ونظامها الجمهوري لتفتح مرحلة جديدة ومتطورة في النضال التحرري ضد الاستعمار، إذ أصبحت جمهورية 26 سبتمبر قاعدة صلبة للحركة الوطنية اليمنية بأسرها، وخلفية راسخة لحرب التحرير الشعبية التي خاضتها فصائل ثورة 14 أكتوبر، تحت شعارات الاستقلال والوحدة بدعم وإسناد من النظام الجمهوري في شمال الوطن، الأمر الذي أسهم في تعميق الوحدة العضوية للثورة اليمنية، وتأكيد واحديتها في إطار عملية وطنية ثورية موحدة الأهداف والمبادئ.
بوسعنا القول إنّ ثورة 26 سبتمبر 1962م كانت منذ قيامها، امتداداً متطوراً لنضال الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، منذ الثلاثينيات وعلى امتداد الأربعينيات والخمسينيات.. ثمّ جاءت بعد ذلك انطلاقة ثورية جديدة على خلفية هذه الثورة تمثلت بقيام ثورة 14 أكتوبر المسلحة 1963م، التي عملت على توسيع النطاق الجغرافي للحراك الثوري الجماهيري بتحويل الجنوب المحتل إلى ساحة ممتدة للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار وركائزه.
ومما له مغزى عميق أن يكون مفجرو ثورة 14 أكتوبر هم أولئك المقاتلون الأبطال الذين توجهوا من ردفان إلى صنعاء للمشاركة في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر، وبعد انتهاء مهمتهم الوطنية عادوا إلى قراهم في ردفان، وقاوموا القوات البريطانية التي جاءت لمحاصرتهم ومصادرة أسلحتهم، عقاباً لهم على مشاركتهم في القتال دفاعاً عن جمهورية سبتمبر. وخلال هذه المواجهات، التي بدأت يوم الحادي عشر من أكتوبر 1963م، استشهد قائد هذه المجموعة المقاتلة وهو الشيخ غالب بن راجح لبوزة صبيحة يوم 14 أكتوبر 1963م الذي تحول إلى شرارة أشعلت ثورة شعبية مسلحة اجتاحت كل الجنوب المحتل.
مسار واحد ومتكامل
على امتداد السنوات الأربع منذ اندلاع ثورة 14 أكتوبر، ضد الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن 1963 - 1967م، كانت الثورة اليمنية تخوض معارك وطنية متكاملة على جبهتي الدفاع عن الثورة ونظامها الجمهوري في الشطر المتحرر من الاستبداد الإمامي، ومقاومة الاستعمار ومشروع اتحاد الجنوب العربي في الشطر الرازح تحت نير الاستعمار.
ولقد تميزت نهاية عام 1967م بتحقيق انتصارات تاريخية للثورة اليمنية في جبهتي المواجهة الرئيسيتين، حيث حققت الثورة اليمنية جزءاً من أهدافها الاستراتيجية في الجنوب بطرد الاستعمار وانتزاع الاستقلال وإسقاط المشروع الاستعماري السلاطيني الذي استهدف تكريس التشطير وإلغاء الهوية اليمنية للجنوب المحتل، عبر إقامة ما كان يسمى باتحاد الجنوب العربي الذي لقي حتفه يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م، بإعلان الاستقلال، وإلغاء الكيانات السلاطينية التي كرست التجزئة، وتوحيد سلطنات وإمارات الجنوب، واستعادة الهوية اليمنية في إطار نظام وطني على طريق الوحدة اليمنية.
وكما حققت الثورة اليمنية انتصارها الحاسم في جبهة المواجهة مع الاستعمار ومشاريع التجزئة في نهاية عام 1967م، تمكنت الثورة أيضاً من تحقيق انتصار حاسم جديد على العدوان الذي شنته بقايا النظام الإمامي القديم بهدف إسقاط الجمهورية والقضاء على الثورة.. وكانت ملحمة المقاومة الشعبية وتحطيم حصار السبعين يوماً الذي استهدف إسقاط مدينة المدائن اليمنية (صنعاء) عاصمة الجمهورية ومهد الثورة، دليلاً إضافياً على رسوخ الثورة ونجاحها في تحويل مشروع التغيير الوطني الشامل الذي بدأ يوم 26 سبتمبر 1962م إلى وجهة تاريخية ثابتة لتطور المجتمع اليمني يصعب التراجع عنها.
ما من شكٍ في أنّ الثورة اليمنية تعرضت لبعض الأزمات والتشوهات التي تسببت في تأخير إنجاز أهم أهدافها وفي مقدمتها الوحدة والديمقراطية، حيث جاء استقلال الشطر الجنوبي بعد حرب أهلية بين فصائل ثورة 14 أكتوبر أسفرت عن انفراد إحداها بالسلطة، ونزوح الفصائل الأخرى إلى الشطر الشمالي من الوطن الذي كان في ذلك الحين يواجه خطر الحصار المفروض على صنعاء ، الأمر الذي ترك بعض الظلال القاتمة على مسار الدولة الشطرية المستقلة التي نشأت في جنوب الوطن بعد الاستقلال، دون ان ينفي ذلك حقيقة ان الدولة الشطرية الاخرى في الشطر الشمالي كانت هي الأخرى تعاني من التشوهات الناجمة عن الصراعات السياسية والدموية التي اندلعت داخل قوى الثورة والصف الجمهوري!!
والحال أن استقلال الشطر الجنوبي أدى إلى قيام دولتين شطريتين تعلنان انتماءهما الشرعي للثورة اليمنية، فيما تكرسان على الأرض أوضاعاً لا تاريخية، وتؤسسان في اللاوعي، قطيعة مع الثورة وأهدافها.
وبوجود دولتين شطريتين أصيبت الوحدة الوطنية للشعب اليمني بنكسة موجعة لم يعرفها شعبنا منذ نشوء الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، فيما دخلت الدولتان الشطريتان في حروب ومواجهات مسلحة أسفرت عن استقطابات داخلية وتحالفات خارجية ترافقت مع قيام كل من الدولتين الشطريتين بتقنين عدد من الإجراءات والقيود التي ألحقت ضرراً بالحريات العامة والحقوق المدنية للمواطنين، وفي مقدمتها تقييد حرية تنقل الأفراد، ومنع انتقال المنتجات الوطنية والمطبوعات والصحف والكتب بين الشطرين.
كما جرى، بصورةٍ متبادلة إحاطة هذه الأوضاع المأساوية بمُناخٍ متوتر اتسم بتغليب الميول نحو الاستقطاب الأيديولوجي، وانتشار الأوهام التي روّجت لوجود نظامين متمايزين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا إلا بتكريس أحدهما، وإلغاء الآخر.
بيد أنّ تلك الأوضاع لم تكن قادرة على تجاوز الحقائق التي صاغتها الثورة في وعي شعبنا وأجياله الجديدة وأصبحت حجر الزاوية في مسار التطور اللاحق للمجتمع اليمني.. فقد قيض للثورة اليمنية أن تستنهض، مجدداً، قدرتها على مواصلة تحقيق أهدافها والانتقال إلى طور جديد يتسم بالاستمرارية والإنجاز، خلال فترة حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي دشن منذ وصوله إلى السلطة عام 1978م، بداية مرحلة جديدة أخرجت الثورة اليمنية من حالة الركود التي أصابتها، منذ أواخر الستينيات على خلفية ظهور دولتين شطريتين متنافرتين، وما رافقهما من نزوع للإلغاء والإقصاء، أسفر عن صراعات دامية وجراح غائرة.
ومن نافل القول إنّ الرئيس السابق علي عبدالله صالح أدرك، منذ البدء، الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا، من رصيد وحدته وحقوقه في الحرية والأمن والاستقرار، بسبب الوضع الناجم عن وجود دولتين شطريتين، بالإضافة إلى الركود الخطير الذي أصاب الثورة جراء الأضرار الخطيرة التي لحقت بأهم أهدافها وهما الوحدة والديمقراطية. ولعل ذلك يفسر اهتمام الرئيس علي عبدالله صالح بإعادة الاعتبار للثورة اليمنية وتاريخها، وبذل أقصى الجهود لإطفاء الحرائق وإيقاف حمى الاستقطابات والصراعات الداخلية، وإشاعة ثقافة الحوار والتعايش والتسامح والاعتراف بالآخر، ومحاصرة نزعات الإقصاء والإلغاء، بين الشطرين، وصولاً إلى تحقيق الوحدة والديمقراطية يوم 22 مايو 1990م.
ولئن تمكنت الثورة اليمنية، خلال الحقبة التي ارتبطت بقيادة الرئيس السابق علي عبدالله صالح، من استعادة وهجها وزخمها، وإنجاز أهدافها الوطنية وفي مقدمتها الوحدة والديمقراطية والتنمية، فإنّ الإنجازات التي تحققت، خلال هذه الحقبة الثورية الجديدة، التي بدأت في يوليو 1978م، بقدر ما تؤشر إلى بداية طور تاريخي جدي في مسيرة الثورة اليمنية التي دشنت مشروعاً تاريخياً وطنياً وحدوياً للتغيير الشامل، بقدر ما تؤشر أيضاً إلى حقيقة واحدية الثورة اليمنية (26 سبتمبر و14 أكتوبر) كتجسيد لوحدة النضال الوطني، ولقدرته على إخراج الوطن من الوضع اللاتاريخي الذي يتعارض مع مبادئ الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ، ويتصادم مع وجهة تطورها.
لقد تميزت هذه الحقبة، ليس فقط بالقدرة على استنهاض مفاعيل الثورة باتجاه التغيير، بل وبقدرتها على أن يكون مشروع التغيير جزءاً أصيلاً من اتجاه التطور التاريخي للثورة، على طريق تجاوز الأوضاع الاستثنائية القائمة، إلى الأفق الوطني الشامل.. بمعنى أن يكون مشروع التغيير الثوري مجسداً لواحدية الثورة اليمنية، التي انطلقت يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، وتجددت يوم الرابع عشر من أكتوبر 1963م التي حررت الجنوب اليمني المحتل من الاستعمار وانجزت استقلاله الكامل يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م قبل ثمانية واربعين عاماً، على طريق تحقيق الوحدة اليمنية واستعادة الوجه الشرعي للوطن اليمني الواحد، وإعادة بناء الإنسان،وتأمين حياة حرة وكريمة للمواطنين في ظل مجتمع ديمقراطي جديد ومزدهر.
|