عبدالرحمن مراد -
< يهل علينا هذا العام عيد الاستقلال الـ30 من نوفمبر 1967م واليمن تخوض معركتها الوجودية وهي تواجه عدواناً شرساً تداعت له الأمم من كل مكان، وتحالفت في ناظم عسكري تقوده المملكة العربية السعودية.. ويبدو أن العدوان بكل تجلياته وتحالفه لايكاد يخرج عن نسقه التاريخي، فالسعودية التي واجهت حركة الاستقلال في الجنوب في مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي ووقفت ضد ثورة 26 سبتمبر 1962م في الشمال كانت تخوض معركتها في الأرض اليمنية ليس دفاعاً عن نفسها خوف حركة التحرر التي تقودها الحركة القومية الناصرية ولكنها كانت تخوض معركة نيابة عن المستعمر البريطاني الذي تداخل مع التكوين الأول والنشأة الجديدة للدولة السعودية، لذلك كان موقف المملكة ثابتاً لا يخرج عن الإرادة السياسية البريطانية ومثل ذلك دالة عليه الوثائق التاريخية التي تنص على التبعية الكاملة لبريطانيا ومنها المذكرة التي تقر اليهود على فلسطين كوطن قومي لهم ومذيلة بقول الملك عبدالعزيز: فأنا لا أخرج عن رأي بريطانيا..
لذلك لا يمكن الفصل مطلقاً بين العدوان الثلاثي على مصر وبين حركة التحرر في اليمن، ونتائج مثل ذلك لا تحتاج كثير تأمل، فبريطانيا التي سمعت كلمات الزعيم جمال عبدالناصر من تعز وهو يقول لها احملي عصاك وارحلي أوعزت إلى يدها الطولى في الجزيرة العربية الملك عبدالعزيز بكسر شوكة عبدالناصر والوقوف أمام ثورة 26 سبتمبر 1962م في الشمال والحد من الأثر المباشر لثورة 14 أكتوبر 1963م في الجنوب، لذلك كان أثر الثورة بطيئاً في الجنوب بسبب حركة الممانعة التي قادتها السعودية ضد ثورة 26 سبتمبر 1962م في الشمال، إذ سارعت إلى الاشتغال في الشمال عن طريق حركة الإخوان التي تشكلت في إطار حزب الله بقيادة الزبيري وأغرت مشائخ القبائل بالذهب واستقطبت بعض العسكريين، وكان ظاهر اشتغالها هو دعم الملكية المتوكلية التي غادرت صنعاء تحت نيران الانفجار الثوري صبيحة 26 سبتمبر 1962م، وباطنه هو دعم المستعمر البريطاني في تغيير معادلة وجوده في جنوب اليمن واستمراره في الهيمنة على عدن ومضيق باب المندب ولذلك تأجل الجلاء بفضل الممانعة التي قادتها المملكة العربية السعودية منذ تفجر الثورة اليمنية مدة أربعة أعوام من 63م إلى 67م وخلال هذا الزمن حصلت تبدلات جذرية في السياق السياسي العربي واليمني فقد حصلت نكسة (5 حزيران 67م) في مصر ثم تلتها أحداث أغسطس 67م في اليمن وصولاً إلى انقلاب (5 نوفمبر 67م) الذي أطاح بالسلال المحسوب على مصر وعلى الثورة المصرية وجمال عبدالناصر وجاء المجلس الجمهوري الذي تنازع النفوذ فيه السعودية مع مصر، بيد أن السعودية كانت أكثر نفوذاً بسبب آثار النكسة النفسية والثقافية والسياسية، ويبدو أن المستعمر البريطاني وجد قدراً من الاطمئنان بعد سيطرة ربيبته السعودية على مفردات اللعبة السياسية في الشمال وهو يدرك الأثر المباشر على الجنوب بل لم يدر في خلده أن يصبح الجنوب دولة مستقلة بحكم التداخل الذي كانت مظاهره واضحة في الجمهورية الأولى التي امتدت من 62م- 1967م برئاسة عبدالله السلال..
وقد كان التحول في الجنوب متسارعاً بعد جلاء المستعمر البريطاني فالجبهة القومية تسلمت السلطة في الجنوب في 30 نوفمبر 67م ومثل ذلك آثار ضغينة المستعمر البريطاني فتحركت أدواته لوأد مشروع الجبهة القومية عن طريق بعض الزعامات في تعز.. يقول البردوني: فارتأى قحطان الشعبي ضمان الاستقرار يكمن في تحريك عناصر الجبهة القومية في الشطر الشمالي، لكي يقطع نهر القلاقل من ينبوعه، وكان في صنعاء أعداد من الجبهة القومية ومن جبهة التحرير يسمون بالحركيين والتحريريين، غير أن الحركيين كانوا في مواقع أقوى، بل كان بعضهم قادة أسلحة في جيش صنعاء، وبالأخص في ظروف حصار صنعاء 1967م، إذ كان عبدالرقيب عبدالوهاب قائد سلاح صاعقة، وحمود ناجي قائد سلاح المظلات، وعلي مثنى جبران قائد سلاح المدفعية، لهذا سعى الحركيون إلى تفجير انقلاب في 23 أغسطس 1968م ضد المجلس الجمهوري بصنعاء..
ويبدو أن الجبهة القومية أرادت أن تحرف بوصلة الحكم والولاء وعودته إلى منبعه الذي تفجر من خلاله وهو الحركة القومية العربية والناصرية بعد أن جذبته السلفية السعودية إلى حظيرتها، وقد فشل الانقلاب في حينه بيد أن أدوات المملكة في اليمن من فئة المشائخ كانوا يريدون الحرب مع أي أحد فتفجرت على إثر الانقلاب الحرب في الحدود الشطرية وألبَّت صنعاء بإيعاز من السعودية كل النازحين من الشطر الجنوبي ضد الجبهة وعملت السعودية على تغذية الصراع بين صنعاء وعدن حتى لا يتوحد النظام وتصبح اليمن دولة واحدة وأججت الصراع إلى انفجار الحرب وسقطت الوديعة وكان سقوط الوديعة مبرراً كافياً لسقوط قحطان الشعبي وهكذا تباعدت الهوة بين صنعاء وعدن وعملت السعودية على تغذية الصراع بين الشمال والجنوب حتى تحقق هدفين متوازيين، الهدف الأول حركة التوسع في الجغرافيا، والهدف الثاني فرض الهيمنة على القرار السياسي والتحكم في المسار والتوجه السياسي ومثل ذلك أصبح معروفاً في التاريخ المعاصر.
ويبدو أن المملكة في عدوانها الجديد على اليمن لا تكاد تخرج عن النسق التاريخي فهي تقف ضد أي حركة تحرر وتحاول أن تفرض هيمنتها لكنها في العدوان الأخير على اليمن فقدت كل أدواتها ومفردات سيطرتها ولم تعد قادرة على استعادة اللحظات التاريخية ولا أراها إلا تكتب قصيدة رثائها بنفسها، فاليمن تجاوزت الشروط الموضوعية للهيمنة وهي ترسم قيمتها الوجودية بدماء أطفالها واشلاء رجالها.. ويبدو أن معركة الاستقلال قد طالت.. لكنها الآن أصبحت حقيقة موضوعية لا يمكن تجاوز حقيقتها الواقعية..
|