عبدالرحمن مراد -
< تسعة أشهر أو تزيد من العدوان، ومايزال الغباء يقود قادة المملكة الى الإمعان فيه، ومايزال العقل البدوي خارج دائرة الحقائق الموضوعية، ولو كان يعقل لعلم بالمدركات الضرورية حقائق الواقع بعد كل هذا الزمن، ولو كان يتعظ لعرف أن عدوانه بدأ مَدَّه ينحسر منذ البدايات الأولى للعام الهجري الجديد وقد قارب الشهر الرابع منذ بدء النكوص على الانتهاء ولم يدرك قادة المملكة الإشارات والرموز، ولم يعوا صبر الحليم، ولم يشعروا بالمعادلة التي بدأت تتشكل وبالصورة التي وصل اليها الشعور الوطني العام وهي صورة جديدة تتمثل في ملامحها العامة التي تجلّت في الآونة الأخيرة وكانت صادمة لقلوب دول العدوان وأذهانهم، وتسرُّ بالسرور كله قلوب أهل اليمن، وقد تبعث رموزها وإشاراتها الصورة التي سيكون عليها المستقبل، ومن الغباء أن لا يدرك قادة العدوان أن التصدع في الجبهات الموالية له، وفي جبهة الفار هادي الذي يجد نفسه بين الفينة والأخرى محاصراً من قبل ميليشياته ولجانه التي شكلها على أسس مناطقية، قد يعمل على يقظة بعض كوامن النفوس بين الطغمة والزمرة وثمة ما يوحي بذلك في عدن، فالطغمة بدأت تستعيد وعيها بذاتها، وبدأ الصراع القاتل يبرز على فوهات بنادق الزمرة، وقد تقول الحقائق الواردة من عدن إن القادم لم يعد يبشّر دول العدوان والتحالف والسعودية إلا بالخزي والعار والهزائم المتكررة، فاليمن التي باعها المرتزق تصرخ في ضميره الآن، وقد بكى الكثير أسفاً وندماً، وعادوا الى الحضن الدافئ، حضن الأم الرؤوم، حضن اليمن، وهو حضن لا يجفو أحداً وقد يغفر ولا يحمل حقداً على الذين يذنبون في حقها، فالشعوب تنضجها حرارة المحنة وتصفّي أخلاطها مرارة العذاب، ومرارة المعاناة، وحرارة التطلع الى الخلاص، وعلى هذا لم يكن العدوان عند العقلاء الذين يدركون الأبعاد التي تترتب عليه عامل دمار وانهيار بل إنه عامل ميلاد اليمن الجديد الذي سوف ينتفض من بين الركام الى جلاء الوجود الحقيقي.
وعلينا أن ندرك أن المقدمة التي يخط صورتها وأبعادها
النفسية والاجتماعية والثقافية بحروف النار وريشة الرعد والبروق عدوان المملكة العربية السعودية على اليمن لن تكون لها نتيجة واحدة، بل سيكون لها عدة نتائج منها النتيجة المنطقية، ومنها النتيجة التوسطية، ومنها النتيجة المعاكسة، وأغلب ما يتحقق هي النتائج المعاكسة في حياة الشعوب، وعبر التاريخ أكثر من أن تعد في هذا المجال فقد كان من المنتظر أن تبقى فرنسا والاتحاد السوفييتي مرميتين تحت أقدام الاحتلال النازي، لكن الذي حدث هو العكس بل واكثر من العكس، فلم يكتفِ الاتحاد السوفييتي بإجلاء الاحتلال عن أرضه، وإنما اندفعت قواته حتى وصلت الى قصر «هتلر» نفسه، وكذلك فرنسا فقد كانت الظواهر العامة تدل على أن الشعب الفرنسي قد خَمُدَ، وأن إرادته قد تعطلت، فإذا به ينبعث من بين ركام الهزيمة والدمار، ويحقق هزيمة المعتدي ويحتل قطاعات من أرضه، وهو الأمر نفسه الذي تتحدث عنه نتائج المقدمات للعدوان على اليمن، فانتصار الجيش واللجان الشعبية أصبح ممكناً رغم التفوق المادي والعسكري وتكالب الأمم وتحالف الاعداء ورغم التفوق في العدد وفي العتاد وفي التقنيات والتكنولوجيا وفي امكانات الجبهات المساندة السياسية والاعلامية والدبلوماسية وفي كل أدوات الحرب والصراع، فاليمن -كما يقول البردوني- على سحق الطغاة معوَّدٌ، وهو وطن يهزم الهزائم ويقفز فوق المعضلات، ولا يرضى لنفسه إلاّ النصر أو الفناء وكذلك دلَّ تاريخه وتاريخ رموزه، فذو نواس فضَّل الغرق في البحر على قبول هزيمة شعب الاكسوم له، وعلى نهجه ظل أبناء حمير ومن رحم ربي من أبناء كهلان، وقد توافق هذا المبدأ العقائدي مع مبادئ آل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان زيد بن علي تجسيداً له فحين صرخ: هيهات منا الذلة، ترددت أصداء صرخته في أَنَفَةِ أهل اليمن فكانت الزيدية والهادوية أكثر أنفةً وعزةً والحركة السياسية والفكرية الأكثر تناغماً مع الوجدان اليمني الحميري.
ومن هنا يمكن القول إن أمل حكام السعودية في تحقيق النصر على اليمن واليمنيين أمل مستحيل وهو لن يأتي، وقد حاول الواقع وحاولت الاحداث أن تبعث رموزها واشارتها إن كان هناك في دول التحالف من يعقل.. إنها اليمن.. بلد عصيّ على الانكسار.