الميثاق نت -

الخميس, 04-فبراير-2016
أ.د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور -



ظلت مدينة عدن لقرون عدة من الزمان واحة للتعايش والتآخي الإنساني بين كل الطوائف والمذاهب والملل والنحل والديانات والأعراق، مُنذ تعاقب وتوالي الدول اليمنية التي بسطت نفوذها على أجزاء واسعة من اليمن بما فيها مدينة عدن.

أتذكر منذ فترة دراستنا في هذه المدينة الوادعة عدن وبالذات في حي كريتر وشارع البهرة وشارع الشيخ عبدالله وحافة القطيع وبقية شوارعها العتيقة وأحيائها التراثية الدافئه، وموقع كليتنا العتيدة بشارع الملكة أروى بنت أحمد (جهة العقبة) ومشهد التنوع الإنساني في هذا الحي الجميل هو المشهد الطاغي الذي انطبع في ذاكرتنا حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولم أجهد نفسي في أية لحظة بالبحث عن إجابات للأسئلة الذي تفضي إجاباتها أحياناً الى متاهات التعصب والفرقة وعمى البصيرة أحيانا، أسئلة ترمي سهام الشك الى (الآخر) الى ذلك المختلف عنا في اللون والشكل والملبس والمذهب وحتى الديانة، لكنني كنت على يقين فطري لطالما خلق الله الناس بهذا التنوع في الشكل والمعتقد, إذاً على الجميع التسليم بمبدأ الاختلاف وقبوله.

أليست الحكمة الإلهية أقوى الأدلة والبراهين في خلق الكون وتنوع البشر الذين خلقهم الخالق لعبادته، انها حكاية سردية طويلة عمرها عمر الإنسان منذ خلق الله أب البشرية جمعاء آدم عليه السلام والى آخر جيل من البشرية يخلفهم الله على الأرض والى ان يرثها ومن عليها، وهي جدلية الفلسفة اللانهائية الطوباوية منها او الجدلية التي ركزت على مضمون وجوهر الإنسان كمخلوق أصطفاه الله ليعمر الكرة الأرضية ويبنيها.

التنوع الإنساني في مدينة عدن ليست ظاهرة خاصة بها وحدها بل ان كل المدن الساحلية التي اشتهرت بالموانئ والاتصال بالعالم الخارجي كميناء المخا والمكلا والحديدة وجدة ومسقط ودبي.. الخ.

لكن الاستثناء لعدن انها مدينة حافظت على هذا التنوع لقرون متواصلة وازدهارها اكثر من مراحل انحطاطها واتصالها بالعالم الخارجي لم ينقطع لأسباب يقع في تميزها الذاتي.

فالمدينة مخزن لكل هذا الإرث الثقافي والديني لقرون ممتدة من حقب عدة وليس كما يزعُم بعض الكتبة انها من زمن الحماية الاستعمارية فحسب، فالمؤرخون الثقات بينوا بجلاء ان تعايش الديانات السماوية والأرضية كانت إحدى صفات مدينة عدن، وآثار وشواهد المدينة تبرز ذلك بوضوح كاف.

فالطائفة الإسماعيلية المسلمة الكريمة بتفريعاتها المتنوعة هم ليس حالة طارئة او مهاجرين جدد وفدوا الى عدن بل ان جذورهم ممتد كجزء أصيل من تاريخ الدين الإسلامي كله، جزء من تاريخ تطور الإسلام وتناقضاته الاجتهادية بصوابها وخطئها وليس هنا مجال لمجادلةٍ فكرية في تاريخنا اليمني والإسلامي عموماً، بل نحن بصدد الإشارة الى واقعة وحدث ما يتعرض له جزء مهم وأصيل من سكان عدن الأصليين وهم أقلية محترمة شريفه عاشت وانصهرت في بوتقة الحياة الاجتماعية والثقافية والتجارية والإنسانية بالمدينة, وهم بالمناسبة مسجلون بالآلاف، اننا بطبيعة الحال امام ما حدث ويحدث لجزء من أهلنا بعدن ندين بأشد العبارات الأعمال الإرهابية المتطرفة النزقة الموجهة ضد الطائفة الأقلية الإسماعيلية المسلمة ونعتبرها عملاً فوضوياً غير أخلاقي ولا إنساني ولا يستند الى مرجعية إسلامية صحيحة، قال الله في محكم كتابه الكريم (لكم دينكم ولي دين) من سورة الكافرون، لكننا صادفنا في التاريخ الإسلامي والإنساني ظواهر شاذة عابرة كهذا الذي يحدث في مدينة عدن الجريحة.

ويرجع جذور تاريخ وجود مذهب جماعة الاسماعيليين في عدن الى بدء تأسيس الدولة الصُليحية ما بين ( 1047–1138م) وعاصمتها مدينة جبلة في محافظة إب وبعدها انتقلت عاصمتها الى صنعاء وكانت السيدة أروى بنت أحمد الصليحي، إحدى أبرز ملوكها وتميز عصرها بالحكمة والاستقرار والتطور في مختلف الصعد وكانت مدينة عدن أحد أهم مدنها المزدهرة ولها حكايات أسطورية معها، إذاً مدينة عدن وكل اليمن عاشت هذا التنوع والاختلاف في المذاهب والاجتهاد.. ومن قراءة عابرة لأحداث مرت في التاريخ الحديث لمدينة عدن نجد انها ليست حادثة جديدة وكل حوادث التهجير القسري والطوعي لها اسباب وجذور " سياسية " بحتة لكنها احداث مُدانة ويتذكر القارئ اللبيب الاحداث الآتية :

( 1 ) حكاية تهجير أتباع الطائفة الدينية اليهودية في نهاية عقد الأربعينات من القرن العشرين، وتهجيرهم تحت شعار (بساط الريح) ولعلم الأجيال الجديدة كان اليهود منتشرين في اليمن كلها من صعدة وعمران وصنعاء شمالاً الى عدن جنوباً مروراً بيافع وحبان ودوعن وغيرها من المدن اليمنية.

( 2 ) حينما رحل آخر جندي بريطاني من عدن رحلت قبله كل الأُسر المسيحية أجنبية او عربية او حتى اليمنيين كأفراد، ولم يتركوا سوى كنائس ومعابد خاوية على عروشها.

( 3 ) في زمن التشطير أي الدولة الوطنية اليمنية الجنوبية غادرت أسر وعائلات السلاطين والمشائخ وعلماء الدين والطبقة المخملية المثقفة ورجال المال والأعمال من كل المذاهب والاسر خوفاً من ظاهرة التصفيات الجسدية التي طالت العديد من مَن بقي بعدن واليمن الجنوبي آنذاك ( التاريخ المسكوت عنه حتى الآن ).

( 4 ) في الفترة من 1967– 1986م تم تهجير قسري واختاري لمئات الآلاف من المواطنيين بسبب ونتاج الصراعات السياسية الدموية في إطار أجنحة التنظيم السياسي للجبهة القومية والحزب الاشتراكي اليمني كوريث للحركة الوطنية اليمنية بما فيها تهجير مواطنيه، وكانت ثالثة الأثافي كما يقول العرب كانت كارثة ومأساة 13يناير1986م.

( 4 ) بعد الوحدة اليمنية وبالذات بعد حرب صيف 1994م هاجرت العديد من قيادات الحزب الاشتراكي اليمني وأسرهم والمئات من أسر المواطنين.

هذا النزيف الإنساني الحاد الذي أصاب اليمن كلها ومدينة عدن على وجه التحديد كان سبباً مباشراً في خسارة الأرض للإنسان وفقدان هذا التراكم الإنساني الطبيعي بما فيه زاد المعرفة والثقافة والتقاليد وحتى الأخلاقيات للأسف، مما مهد الأرضية الخصبة لظهور جيل جديد قابل للتطويع من قبل حاملي (بيارق) ورايات التطرف السياسي والديني.

ان ما تعرض ويتعرض له أهلنا من طائفة الإسماعيلية المسلمة أكانوا بُهرة أو خُوجة أمر مشين والسكوت عنه جريمة أخلاقية بشعة يتحملها جميع من هم يمثلون السلطة على الأرض والمثقفون القابعون في غُرف نومهم المظلمة والأدباء والمفكرين الصامتون وكذلك الإعلاميون الذين يرعدون ويزبدون في أمور وقضايا هي أقل أهمية من الناحية الإنسانية والأخلاقية من قضية التهجير التي تعد واحدة من جرائم العصر.

ان الدفاع عن هذه الطائفة أصبح فرض عين وواجباً أخلاقياً ومسؤولية مشتركة على كل الفرقاء السياسيين والمثقفين وحملة مشاعل (الفكر والتنوير) والاقلام الحرة وقبلها ذوي العقول والقلوب الحُرة، ولا يمكن لذي لُب ان يتوانى في الإسهام عن فكرة الدفاع عن الإنسان وجلال هيبته المستمدة من جلال خالقه الله عز وجل، علينا ألا نمرر سلسلة الجرائم او نعتاد على التعايش مع مشاهدها، لأن نار هؤلاء المفتنين المتطرفين لن تتوقف أمام حاجز بذاته ولن يتورعوا في استباحة دماء الناس بدءاً بالتفخيخ والتفجير وفصل الرأس عن الجسد والسحل والحرق والقنص والتنكيل وآخر فصولها السوداء التهجير، وما نقوم به ليس دفاعاً عنهم فحسب بل هو دفاع عن مستقبل أجيالنا وتعايشهم المشترك في مدينة آمنة خالية من التطرف والغلو، هي مدينة عدن، مدينة كل من عاش وعمل بها وخدم أهلها وهذا حال كل مدن العالم تقريباً.

لكن دعوني أقترب من جوهر المشكلة ومحورها في هذا السياق الآتي:–

فاليمن غارق في حرب داخلية معقدة وحرب عدوانية وحشية مستمرة لعشرة أشهر وأساس ومصدر هذه الحرب هو (سياسي بحت) تفجر بين فرقاء العمل السياسي اليمني، لكن الاعداء الخارجيين وظفوه لمصالحهم وشنوا هذه الحرب العدوانية المستمرة حتى لحظة كتابة هذه السطور.

ما هو الملمح العام لوصف مرتكز اللحظة الحرجة الحالية ؟:–

أولاً:–

من خلال المطالعة الجادة لرأي الخبراء الاستراتيجيين في الشأن الحربي بأن الحرب قد وصلت الى نقطة التعادل والتوازن وما عدا ذلك فهي تفاصيل فحسب ٠

ثانياً:–

من القاعدة الأولى في القراءة المتأنية لرأي الخبراء الاستراتيجيين فان الحرب في اليمن مرشحة للاستمرار لسنوات ولن يكون بها غالب أو مغلوب إلا إذا حدث طارئ يتساوى مع حدوث المعجزات٠

ثالثاً:–

لاشك في ان العامل الخارجي هو المستفيد الأول والأخير من ديمومة الحرب واشتعالها لأسباب جيواستراتيجية واقتصادية.

رابعاً:–

تنظيما داعش والقاعدة الإرهابيان ويضاف لهم تجار الحروب بالداخل والخارج هم المستفيدون من استمرار هذه الحرب، وقد شاهدنا ذلك من خلال سيطرة كبيرة على مدينة عدن وسيطرة شبه كلية على مناطق الحوطة بتبن لحج وزنجبار وضواحيها في أبين وخلال اليومين الماضيين اعلن تنظيم القاعدة الإرهابي عن إعادة سيطرته على مدينة عزان بشبوة مرة جديدة واما حضرموت فقد تم السيطرة عليها من قبل القاعدة منذ عدة أشهر..

ان اي حديث تبريري تجاه الوضع الأمني في هذه المناطق آنفة الذكر ما هو إلا ضحك على الدقون وأحاديث مجتهدين مراهقين بالسياسة ولن يقدم ولن يؤخر أي أمر سوى المزيد من إهدار الوقت والدماء والأرواح.

خامساً : –

على جميع القوى السياسية ان تتحرر من وهم السيطرة على اليمن بقوة السلاح الداخلي او الاستقواء بالعدو الخارجي لان تفكيراً من هذا النوع سيغذي نهج الحرب لدى تجار الحروب.

(سادساً):–

ان الحل السياسي وحده بين شركاء العمل الوطني هو الحل الوحيد الذي سبق نجاعته في حل كل أزمات اليمن وحتى بالعالم.

سابعاً:–

تقع على كل القوى السياسية الوطنية المجابهة للعدوان وبالذات (المؤتمر الشعبي العام وأنصار الله) وبقية القوى الوطنية مسئولية التنسيق العالي على مختلف الصعد أكان بالجبهات السياسية أو الإعلامية والإدارية أو العسكرية وهذا من شأنه يعزز التلاحم والصمود لمواجهة صلف العدوان.

ان البحث في جوهر الموضوعات والتعمق في تفاصيلها (الشيطاني) افضل ألف مرة من الأحاديث الإعلامية الدعائية المضللة او الاستكانة الى كسل العقل وانتظار الحلول الجاهزة من أناس قريبين من السلطة مكانهم جيش الغوغاء الدهماء, والإنصات للضمير خير من الاستماع الى الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.

اننا نكرر التضامن والتآزر مع أهلنا ومواطنينا من طائفة الاسماعيليين في عدن على أساس دستوري قانوني والأهم منه هو تضامنا الإنساني البحت على القاعدة الحياتية العامة ان الدين لله والوطن للجميع ومن قرح يقرح..





رئيس جامعة عدن – محافظ عدن الأسبق

صنعاء في 4 فبراير 2016م

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:33 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-45062.htm