فيصل عساج - لم يسمع الكثير من ابناء الوطن العربي وربما مصر أن قرية »باسوس« والتي تتبع ادارياً محافظة القلوبية في مصر هي مسقط رأس الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل وقد سطع اسم »باسوس« خاصة مع وفاة هذا العملاق الذي دخل عالم السياسة منذ سن الـ17 عاماً من عمره من القرن العشرين وبدأ عظيماً في مساهمته في تكوين الحياة السياسية لمصر وربما للوطن العربي من خلال اللقاءات مع رؤساء وملوك المنطقة العربية وكان أول اصداراته كتاب »ايران فوق البركان«.
ولأنه عبقري فقد تمكن من إجراء لقاء صحفي مع عالم الذرة الأمريكي البرت اينشتاين وهو من أصول يهودية.. ومن تجاربه الصحفية العظيمة تغطيته حرب فلسطين 1948م، لأنه رافق مجموعة من ضباط ثورة 1953م وعلى رأسهم الزعيم جمال عبدالناصر.. وتشاء الأقدار لتندلع الحرب الكورية ويسافر هيكل من جديد لتغطية تلك الحرب.. والتي كانت القوى الكبرى تتصارع على المنطقة فيها.
لقد ظل هيكل ملازماً لقائد ثورة 23 يوليو 1952م الزعيم جمال عبدالناصر حتى قبره فهو من الشخصيات السبع الذين كانوا في غرفة وفاة جمال عبدالناصر والجميع يعتقد أن كتاب فسلسفة الثورة هو من تأليف جمال عبدالناصر ولكن من قام بتحريره هو هيكل.. وقد ترأس هيكل كبريات الصحف المصرية ومنها صحيفة الأخبار سنة 1955م ومجلة آخر ساعة وصحيفة الأهرام في نفس الوقت سنة 1957م ولم ينشغل بالعمل الصحفي بل استغله للقاء بشخصيات سياسية سواءً في المنطقة العربية أو أمريكا أو أوروبا أو الاتحاد السوفييتي وقد استغل تلك اللقاءات ليخرج لنا أعظم »40« كتاباً في السياسة والاقتصاد والصراع العسكري والسياسي والفكري والمذهبي والطائفي، لقد جمع ثقافات وأفكار قيادات ثلاث قارات حتى الكيان الصهيوني.. واستطاع الكاتب الكبير أن يتعمق في افكار القيادات الاسرائيلية سواءً من تغطية حرب فلسطين وحتى حرب اكتوبر 1973م والقارئ لكتاب حرب اكتوبر والذي أصدره هيكل يجد أنه كان يتابع ساعة بساعة الأوضاع العسكرية سواءً في القاهرة أو موسكو أو واشنطن أو لندن أو اسرائيل، وكذلك كتابه »مذكرات ايرن السويس« وما الذي جرى في سوريا وبذل في ذلك الكتاب جهداً لأنه قد تضمن وثائق تفضح المؤامرات السعودية على سوريا ومصر، ومن أروع كتبه أيضاً »خبايا السويس« و»نحن وأمريكا« ولعل »سنوات الغليان« التي خصص لها ثلاثة أجزاء بـ»4050« صفحة هي مفخرة وعبقرية هيكل.
وقد اندهش رواد الصحافة في تلك الفترة من أن دوراً للنشر في أمريكا وانجلترا تدفع مبالغ خيالية لإصدار كتب هيكل والتي تترجم الى أكثر من 20 لغة عالمية فمثلاً الواشنطن بوست كانت تدفع مائة وخمسين ألف دولار لنشر كتاب لهيكل وهذا المبلغ في ذلك الوقت كبير جداً، ولعل البعض قد يعتقد أن قيمة الكتاب تأتي من كونه مقرباً من قائد الثورة المصرية ولكن عبقرية هيكل هي من فرضت على اكبر دور النشر في العالم احترام مصداقية هذا الاعلامي العبقري.
ومن الشواهد التي تدل على عظمة وقدرات هيكل الفكرية والصحفية ما ذكر عنه انشتاين فعندما طلب هيكل اجراء لقاء صحفي مع عالم الذرة اشترط آنشتاين أن تكون مدة اللقاء عشر دقائق اثناء ممارسته رياضة المشي لكن اللقاء استمر لمدة ساعتين.. ومن أبرز لقاءاته كانت مع قائد المخابرات السوفييتية يوري اندري بوف وشخصيات اخرى عالمية.. وقد ضم أجمل سبعة لقاءات لسبع شخصيات دولية في كتاب »زيارة جديدة للتاريخ« وتلك الشخصيات هي البرت آنشتاين وملك اسبانيا اخوان كارلوس ويوري اندري بوف رئيس المخابرات السوفييتية ونهرو الزعيم الهندي والجنرال الباكستاني المنهزم في الحرب الثالثة بين الهند وباكستان والجنرال الهندي المنتصر في تلك الحرب وقد اصدر ذلك الكتاب في بداية الثمانينيات.
وتكمن شهرة ومصداقية جميع كتب محمد حسنين هيكل في الآلاف من الوثائق التي ضمنها كل تلك الاصدارات.
ظل هيكل طيلة حياته قارئاً للأحداث والتطورات على مستوى العالم واطمأن المتابعون لأفكاره وقراءاته لواقعيتها..
كما ظل شاهداً على العصر، ومما قاله قبل وفاته بأسابيع عن اليمن بأنها بلد جميل وعظيم ولكنها لم تأخذ فرصتها وأن العدوان على اليمن سوف يفشل ونصح دول العدوان بأن عليها أن تتراجع كون الظرف الدولي ليس في صالح تلك الدول وأن الجغرافيا وطبيعة الشعب اليمني ستجعل تلك الدول تخسر مصداقيتها الدولية، ولعل الكثير يذكرون في عام 2011م عندما زار وفد من احزاب اللقاء المشترك الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في منزله لإعطائهم مباركته للربيع العربي في اليمن وكان رده: »ما يجري في اليمن ليس ثورة وإنما قبيلة تسعى لأن تتحول إلى دولة«.
وقد طلب الاخوان المسلمون في اليمن اعتذاراً لكنه رفض لأنه يعي ما يقول، وهاهي اليمن تعيش نتاج ما ألمح إليه هيكل في مقولته تلك.. لقد خسر الوطن العربي والعالم عبقري قرنين من الزمن.. وستظل كل انجازاته الصحفية والسياسية والمعرفية لقرون قادمة من المستقبل تشهد بأنه كان أصدق وأعظم شاهد على العصر..
رحم الله الكاتب العملاق محمد حسنين هيكل الذي ترجَّل في أعقد لحظات التاريخ وأهزل أنظمة الحكم..
|