محمد حسين العيدروس -
بقدر ما يعتقد البعض أن مبدأ الحوار هو مجرد أداة سياسية من وحي ابتكارات عصر الديمقراطية نعتقد أن الحوار في الأصل مبدأ شرعي من صميم عقيدتنا الإسلامية التي أمر فيها الله تعالى رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام قائلاً ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ليكون ذلك هو السبيل الأقوم لنشر سلام البشرية وعدالتها بدين الإسلام .
وما دام "الدين معاملة" فإننا عندما نؤكد في أدبيات الدولة بأن الإسلام هو مصدر التشريع الدستوري فإنما المعنى أن يتمثل ذلك واقعاً في ممارستنا اليومية وسلوكنا ومناهج تعليمنا وتعاملاتنا السياسية والاقتصادية وفي كل جوانب حياة شعبنا لا أن يتحول ذلك إلى شعار سياسي نرفعه فوق مقراتنا الحزبية أو نهتف به وسط الجماهير في الوقت الذي نتنكر له في واقع تعايشنا اليومي سواءً بصفتنا أفراداً او جماعات أو منظمات أو تنظيمات وأحزاب سياسية .
عندما تتحدث القيادة السياسية عن الحوار اليوم وتراهن عليه في تداول الهموم الوطنية فذلك لأن الحوار كان هو الخط التاريخي الفاصل بين زمن الحقائق المفخخة والاغتيالات السياسية للزعماء والناشطين والعلماء وبين الزمن الذي جمع فيه الأخ الرئيس علي عبد الله صالح القوى الوطنية والتيارات السياسية اليمنية تحت مظلة لجنة الحوار الوطني التي صاغت الميثاق الوطني بلورت أعظم وحدة وطنية تتحقق في اليمن منذ قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين وحتى تلك اللحظة .
كما أن الحوار كان هو المظلة الشرعية الوحيدة التي اجتمعت تحتها قيادات الشطرين اليمنيين وهيأت بفضلها كل الظروف التي قادت إلى إعلان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية المباركة في الـ(22) من مايو 1990م والتي لا يضاهيها إنجاز أو مكسب في تاريخنا المعاصر ، ومن يتصفح مذكرات الجمهورية اليمنية في فترة الأعوام السبعة عشر الماضية من عمرها سيجد أن الحوار كان هو النهج الذي تتهيأ به مختلف التجارب الديمقراطية التي خاضها شعبنا على صعيد برلماني أو رئاسي أو محلي ، وبما يمثل صمام الأمان ليس فقط للساحة الداخلية بل حتى على صعيد حل الخلافات الحدودية مع دول الجوار وتنمية العلاقات والمصالح المشتركة مع مختلف دول العالم .
ولكن عندما تتصور بعض القوى السياسية أنها ستخرج إلى الشارع وتهتف بالشعارات وتنادي بالمطالب المشروعة وغير المشروعة وأنها ستبلغ مرادها بتلك الطريقة فإن ذلك هو الوهم بعينه وابتذال للعمل السياسي وازدراء للجماهير التي تطالبها المعارضة أن تبقى تدور في الشوارع من غير أن يكون لها الحق في إيصال صوتها لصناع القرار والتحاور معهم بشأن مطالبها وهذا هو أبسط حقوق من يخرج في مسيرة أو تظاهرة إلا إذا كان الغرض من النزول إلى الشارع أمراً أخر غير الذي تعلم به الجماهير وتخشى تلك القوى الجهر به لئلا تنقلب عليها الجماهير أما عندما تتذرع أحزاب اللقاء المشترك بما تردد في وسائل الإعلام من أخبار حول الحوار الذي دعا إليه الأخ رئيس الجمهورية وتتنبأ بالغيبيات لإدعاء عدم جدية الحوار فذلك أمراً مثير للاستغراب والسخرية إذ كيف لأحزاب معارضة ان تطلب من السلطة تكميم أفواه وسائل الإعلام وتقييد حرية الرأي والتعبير في نفس الوقت الذي تتهم السلطة بمحاصرة حرية الصحافة، وكيف لأحزاب تتدعي ممارسة العمل السياسي ولا تعلم بأنه ليس للعرف السياسي مواقف تتخذ تجاه أي مبادرة سياسية استناداً إلى ظنون ونبؤات وهواجس ومن قبل إفصاح الطرف المبادر عما يحمله من إتجاهات حوارية .
أن الحقيقة التي تجعل بعض القوى السياسية تجنح نحو فوضى الشارع هي كونها غير قادرة على الظهور في الوسط الشعبي بغير ما تروج له من أوهام وأباطيل لأنها بالأصل لا تمتلك غيرها وتعجز عن مجاراة الآخر في إنجازاته وأساليبه في إدارة العملية السياسية وأسلوب تفكيره في العمل الوطني ما دامت لا تجد رصيداً من العمل الوطني الذي يجعلها موضع القبول فإنها تعتقد أن تشويه أرصدة الغير قد يحقق بعض التعادل في الإفلاس وليس التفاضل في الإنجاز .
لا شك أن من السهل على الجميع إدعاء الأفضلية ولكن يستحيل على البعض تقديم ما يثبت أفضليته وما يؤكد صلاحه خاصة عندما يكون أقصى ما يهبه للجماهير هو بضع خطابات منمقة وغارقة بالوعود بإمكان أياً منا سماع ماهو أبلغ وأجرى منها بكثير من مواطن عادي في نفس الشارع الذي يتوقع أن يأتيه من يبني له مدرسة أو مركزاً صحياً أو مصنع يستوعب شبابه العاطل وليس من يلقي عليه خطاباً ويحرض على تخريب كل ما تم بنائه وقطع الطريق وتعطيل منشآته الإنتاجية وزعزعة أمنة والإدعاء أن ذلك عمل سياسي يأتي بما لا يأتي به الحوار .