بقلم/ احمد الحبيشي - أفرطت أحزاب «اللقاء المشترك» بقيادة الإخوان المسلمين خلال العقد الأول من الألفية الثانية ، في الاشتغال على مفاعيل الديمقراطية التعددية والانحراف بها وتشويهها ِوتوظيفها لصالح مراهناتها على تكتيك اللجوء إلى الشارع كوسيلة سياسية لتغطية هزائمها المتكررة في مختلف المحطات الانتخابية .
ولا نبالغ حين نقول إن أحزاب «اللقاء المشترك» أخطأت في مراهناتها على خيار اللجوء إلى (الثورة الشعبية السلمية) من خلال الشوارع بهدف الوصول إلى السلطة ، حيث تجاهلت خطورة استبدال صناديق الاقتراع بالصراخ في الشوارع المفتوحة على رواسب الماضي، وما يترتب على ذلك من مضاعفة مخاطر هذه اللعبة العمياء، حيث يؤدي الاستغلال السيئ للحقوق السياسية والمدنية التي يكفلها النظام الديمقراطي التعددي ومنظومته الدستورية، وإطلاق مفاعيل الشوارع ، إلى بروز الفوضى الهدّامة وانبعاث المشاريع والأفكار القديمة التي قضت عليها الثورة اليمنية (26 سبتمبر و14 أكتوبر) بعد أن نجحت في تحرير الوطن من الاستبداد والاستعمار، وتمهيد الطريق لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لنضال الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، من أجل الحرية والاستقلال والوحدة على طريق بناء وطن حر وديمقراطي موحد.
في هذا السياق برزت مخاطر إضافية زادت من فجوة اختلال واضطراب البيئة السياسة للمجتمع ، وأبرزها التوظيف المتزايد للخطاب الديني السلفي الوهّابي ، ومحاولة تقديمه كلاعب سياسي ، وعكست هذه المخاطر ــ قبل فوضى 11 فبراير 2011مـــ إفراط بعض الأطراف في السلطة والحزب الحاكم والمعارضة على حد سواء ، في المراهنات الخاطئة على التعامل البراغماتي مع هذا الخطاب الذي يعد واحداً من أخطر المشاريع الصغيرة التي تهدد وحدة النسيج الوطني للمجتمع ، بسبب اشتغال السلفيين الوهّابيين على تأصيل ثقافة الكراهية والتحريض ضد أتباع المذاهب والفرق الإسلامية الأخرى ، ونزوعهم إلى إضفاء أبعاد طائفية ومذهبية على تناقضات وإشكاليات البيئة السياسية لنظامنا الديمقراطي التعددي، من خلال حرص جميع التيارات السلفية ، على الإقامة الدائمة في الماضي ، والبحث في كهوف التاريخ عن مسوّغات لإحياء واستحضار صراعات وحروب طائفية قديمة ، كانت سبباً في تلوين التاريخ الإسلامي بالدماء ، وإرهاقه بالجراح ، وصولاً الى إضعاف الشعوب الإسلامية وإخراجها من ميدان صناعة الحضارة.
وزاد من مخاطر دخول الخطاب السلفي الوهّابي على خط المشهد السياسي قبل 11 فبراير 2011م، تماهيه مع أهداف الخطاب السياسي لأحزاب (اللقاء المشترك) وما كان يسمى بـ «الحراك الجنوبي» لجهة المتاجرة السياسية بالمطالب والحقوق المشروعة للمواطنين تحت شعار (رد المظالم) كحق يراد به باطل ، وهو إخفاء مسؤولية بعض القيادات السياسية والدينية المعارضة آنذاك في ارتكاب الكثير من المظالم التي ألحقت أضراراً جسيمة بالدولة والمواطنين والمال العام، وبضمنها إباحة قتل المسلمين المدنيين من الرجال والأطفال والنساء أثناء حرب 1994م في الجنوب ، وحروب صعدة في شمال الشمال ، والتحريض على ارتكاب جرائم حرب وإبادة وجرائم معادية للإنسانية بذريعة ما يسمى (التترس) التي تجرِّمها اتفاقيتا جنيف الأولى والثانية ونصوص القانون الدولي الجنائي والقانون الدولي الإنساني ، وغيرها من المواثيق الدولية التي وقعت عليها وتلتزم بها الجمهورية اليمنية على نحو ما سعت إلى تحقيقه الفتوى التي أصدرها أثناء حرب 1994م شيوخ الجناح السلفي الوهابي لحزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يقود ويوجه أحزاب (اللقاء المشترك) وفي مقدمتهم عبدالمجيد الزنداني وعبدالوهاب الديلمي.
وتعتبر تلك الممارسات الخطيرة مصدراً للمظالم التي ارتكبها عدد من قادة (اللقاء المشترك) وشيوخ التيارات السلفية الذين تهافتوا بعد حرب 1994م على تأسيس شركات استثمارية وهمية، وسرقة أموال المودعين تحت شعار "توظيف الأموال لتحقيق الربح الحلال" ، ونهب أراضي وعقارات الدولة لاستخدامها في المضاربات والاستيلاء على مزارع الدولة وأراضي المواطنين والجمعيات السكنية ، والسطو على الوكالات التجارية الكبيرة وسحبها من أصحابها الحقيقيين، وابتزاز المستثمرين، والتهرب الضريبي والمتاجرة في تهريب الممنوعات، ناهيك عن اشتغال الخطاب السلفي الوهّابي على أفكار رجعية تناهض المضامين الجوهرية لدستور الجمهورية اليمنية.
من نافل القول إن الخطاب الديني السلفي الوهّابي يعتبر الدولة الوطنية الحديثة خروجاً عن الدين والشريعة الإسلامية ، ومصدراً للفساد السياسي والإداري والأخلاقي في الدولة والمجتمع بحسب ما جاء في الخطاب السياسي لما يسمى (الملتقى السلفي العام) في نهاية 2010م والذي كانت رموزه ومكوناته المختلفة حريصة على التسلل إلى المشهد السياسي في البلاد قبل مؤامرة 11 فبراير 2011م، بهدف تسويق أجندة خارجية ليست من صنع اليمن، واستخدام العمل الدعوي والخيري كغطاء لنشر أفكار رجعية تستهدف تقويض الأسس الدستورية للنظام السياسي الديمقراطي التعددي الذي قامت عليه الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م، حيث يحرص الخطاب السياسي السلفي الوهّابي على الدعوة لتحريم الديمقراطية وتكفير الانتخابات والتحريض ضد التعددية والسياسية والحزبية وما سيترتب على هذه الأفكار والدعوات الخطيرة ، من تحديات إضافية ومخاطر جدية تهدد بمصادرة شرعية الوحدة التي ارتبطت بالديمقراطية، وتوفير الذرائع للمشاريع الانفصالية التي تعتبر الدعوة للانقلاب على الديمقراطية خروجا على الاتفاقيات الوحدوية ودستور دولة الوحدة ووثيقة إعلان الجمهورية اليمنية.
اللافت للنظر أن أحزاب (اللقاء المشترك) كانت تحرص قبل مؤامرة 11 فبراير 2011م على الظهور دائماً في صورة المدافع عن الوحدة والديمقراطية، والمناهض للظلم والاستبداد والفساد، كما حرصت هذه الأحزاب على التظاهر بالانفتاح على المجتمع المدني ووسائل الإعلام الخارجية وسفارات الدول الأجنبية ومنظماتها غير الحكومية التي تنشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان.
في الاتجاه نفسه حرصت هذه الأحزاب على إخفاء تناقضاتها من خلال توزيع الأدوار فيما بينها من جهة، وبين الأجنحة المتصارعة داخل كل حزب على حدة من جهةٍ أخرى، طمعا في الحصول على مصادر داخلية وخارجية لشرعية حراكها السياسي، والتمويه على أجندتها السرية القابلة للانكشاف والانفجار فور وصولها إلى السلطة.
والحال أن هذه الأحزاب راهنت قبل أحداث 11 فبراير 2011م من الناحية الشكلية على استثمار تمددها على الصعيدين الداخلي والخارجي من أجل تجديد وتنويع مصادر شرعيتها، بعد نقل مركز ثقل نشاطها المعارض من المؤسسات الدستورية للدولة والمجتمع، إلى الشوارع المفتوحة على كل الوسائل والمطالب والرواسب والمشاريع بكل اتجاهاتها المشروعة وغير المشروعة.
بيد أن مضمون هذا الخطاب كان يشير من الناحية الموضوعية إلى مراهنة هذه الأحزاب على توظيف ما تتوهم أنها مصادر شرعية لاستنساخ ثورة شعبية سلمية من طراز (الثورات الملوّنة) التي اجتاحت جمهوريات الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية والاتحاد اليوغسلافي في أوروبا الشرقية أواخر القرن العشرين المنصرم، وتمكنت من إسقاط الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان عبر الشوارع ، بعد نجاحها في استدراج المؤسسات العسكرية والأمنية إلى مواجهات تؤدي إلى سقوط بعض الضحايا من المدنيين ، تمهيداً للضغط المعنوي على هذه المؤسسات، وصولاً الى تحييدها وشل فعالياتها.
وقد سبق لنا في كتابات سابقة القول بأن التخطيط للانقلاب على الوحدة والديمقراطية قد لا يكون هدفاً استراتيجياً لأحزاب «اللقاء المشترك» على الرغم من تعاطيها النسبي مع الشعارات المناطقية والمشاريع الانفصالية والنعرات الجهوية ، وما يترتب على ذلك من الغرق في مستنقع مفتوح على كل الأوساخ والأوبئة الخطيرة، بمعنى أن هذه الأحزاب أسرفت في استخدام مختلف الوسائل والتحالفات الانتهازية في سبيل تحقيق هدفها الاستراتيجي وهو الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها بعد ذلك.
ولا ريب في أن الخبرة التاريخية لتنظيم الإخوان المسلمين تركت بصماتها على السياسات والوسائل والتحالفات والمواقف الرمادية لأحزاب «اللقاء المشترك»، لجهة إدمان «الإخوان المسلمين» على الإفراط في الوسائل التآمرية والتحالفات الانتهازية مع النخب السياسية الحاكمة في القصور الملكية والجمهورية، وحركات المعارضة الفاعلة في شوارع البلدان العربية، وتحت واجهات مختلفة تخدم الهدف الاستراتيجي للإخوان المسلمين وهو الوصول إلى السلطة، على غرار ما يحدث اليوم في اليمن، حيث يختبئ (الإخوان المسلمون)- وهو تنظيم غير شرعي ومخالف لقانون الأحزاب والتنظيمات السياسية ـــ تحت واجهة «حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يتخذ من أحزاب (اللقاء المشترك) والعدوان السعودي على اليمن ، واجهة إضافية لضمان تحقيق المشروع السياسي الاستراتيجي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي يرى أن مشروع إعادة نظام الخلافة - بما هو أبرز أهداف المشروع الاستراتيجي للإخوان المسلمين ــ لا يمكن تنفيذه من دون الوصول إلى السلطة في أي بلدٍ إسلامي أو حتى في أي جزء من أراضيه، تمهيداً لبناء قاعدة سياسة وتعبوية للانطلاق إلى العالم بهدف تحريره من (الجاهلية الجديدة) ، وتغييره وأسلمته وتطبيق الشريعة في ربوعه.. وهو تكتيك يسير على مناهج (الأحزاب الشيوعية والقومية) التي توهمت أن بمقدورها إقامة الدولة النموذج بعد الاستيلاء على السلطة فيها، واستخدامها بعد ذلك كقاعدة للانطلاق إلى الخارج.
والحال ان الإخوان المسلمين والشيوعيين والقوميين دفعوا أثمانـاً باهظة نتيجة السقوط في وحل الأوهام المفرطة بإمكانية تحقيق مشاريعهم الأيديولوجية بعد وصولهم إلى السلطة ، بواسطة مختلف الوسائل التكتيكية والتحالفات الانتهازية، بما فيها المراهنة على مفاعيل اللعبة العمياء للشوارع.
وما من شك في أن المشاريع الأيديولوجية لا تخلو دائماً من أوهام الطوباويات التي حاولت تغيير العالم في عصور مختلفة من التاريخ القديم والحديث.. وقد أكدت لنا دروس هذا التاريخ أن الاستراتيجيات الرامية الى تحقيق أهداف عظيمة ومشاريع كبيرة بحجم الإصلاح الوطني الشامل الذي كانت تدعو إليه أحزاب (اللقاء المشترك) قبل العدوان السعودي الأميركي على اليمن ، لا يمكن تحقيقها بدون مراكمة إنجازات وتحولات تنطوي على قيم إنسانية ذات أبعاد ثقافية وأخلاقية تحفز على البناء بدلاً من الهدم ، كشرط لتحقيق الأهداف العظيمة والمشاريع الكبيرة.
وبالنظر إلى مخاطر وتحديات المشهد السياسي الراهن بما هي الوجه الأبرز لمخرجات الوسائل التكتيكية التي استخدمتها أحزاب (اللقاء المشترك) منذ 11 فبراير 2011 وصولاً الى العدوان السعودي الأميركي على اليمن ، من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية.. فإن مواجهة تحديات هذا المشهد تقتضي صياغة رؤية وطنية استراتيجية شاملة وقادرة على استيعاب هذه التحديات والمخاطر الجدية، وهي - من دون أي شك - مهمة ملحة تنتصب أمام القوى المناهضة للعدوان والاحتلال ، من أجل بلورة مشروع سياسي نهضوي جديد ، يضع في صدارة مهماته وأهدافه الاستراتيجية، إصلاح البيئة السياسية ومعالجة السلبيات وتصحيح الأخطاء التي تتعارض مع المعاني والقيم العظيمة للثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية.
ولما كان بناء الإنسان الجديد هدفاً جوهرياً لهذا المشروع الوطني النهضوي على طريق مواصلة بناء اليمن الجديد والدولة الوطنية الحديثة، فمن الضرورة بمكان أن تكون مهمة صياغة وعي الناس في صدارة الرؤية الاستراتيجية السياسية والثقافية والإعلامية التي يتوجب على كل القوى المناهضة للعدوان والاحتلال صياغتها وبلورتها لمواجهة التحديات التي تواجه البلاد حالياً، وحماية الأجيال الجديدة من مخاطر الخطاب الانفصالي والخطاب السلفي الوهّابي الطائفي اللذين يتسابقان من أجل السطو على عقول الشباب ، وفك ارتباطهم بتاريخ الثورة اليمنية (26 سبتمبر ــ 14 أكتوبر)، وإعادة عقارب الساعة إلى الخلف والإقامة الدائمة في الماضي.
|