د.عبدالرحمن أحمد ناجي - شهد العالم مطلع العام الحالي 2017م مراسيم تنصيب الرئيس دونالد ترامب رئيساً جديداً للولايات المتحدة الأمريكية، وشهدنا جميعاً المدعوين لحضور تلك المراسيم، وهو تقليد مألوف يتكرر كل مرة قبل أن يطأ الرئيس الجديد عتبات البيت الأبيض بقدميه، سواءً أكان ينتمي للحزب الجمهوري أو الديمقراطي، ورأينا كيف قام الرئيس باراك أوباما بالترحيب بالرئيس الجديد في وجود رسمي مهيب محتفى به لمن هم على قيد الحياة من الرؤساء السابقين، دون أن يشكل ذلك أي حرج أو إزعاج للرئيس الجديد.
وكم أتمني أن نستلهم من الآخرين مواطن الجمال والرفعة والسمو ونجسدها في واقعنا، بنفس القدر الذي أتمنى فيه النأي بأنفسنا تماماً عن التقليد الأعمى للآخرين لمجرد إحساسنا أنهم أكثر تقدماً ورقياً وتحضراً، فنحن اليمانيين تحديداً من ينبغي أن نضرب للآخرين أروع الدروس والعِبَر في أسلوب التعامل مع حكامنا السابقين الذين مازالوا على قيد الحياة، خصوصاً إن كان أحدهم هو مؤسس الدولة اليمنية الحديثة، وتلك حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها أو تغييبها ومحوها من ذاكرة التاريخ، وبالذات حينما تكون الأحداث العظمى في تاريخ الشعوب مازالت تنبض بالحياة أمام أعينهم، مهما بلغت درجة اختلاف وتباين ومعارضة الحاكم الجديد لأسلوب إدارة سلفه لشئون الحكم، فالحقائق التاريخية يستحيل على أي حاكم جديد تربع على كرسي الحكم أن يطمسها أو أن يتجاوزها بجرة قلم أو بإشارة من إصبعه، فما بالنا وتلك الأحداث والحقائق التاريخية كانت حلماً عزيزاً غالياً لطالما راود الآباء والأجداد الذين ظلوا يناضلون من أجل إنجازها جيلاً بعد جيل، وشكل تحققها علامة فارقة ونقلة نوعية في الضمير والوجدان الوطني، ومصدر فخر واعتزاز كل المواطنين.
فما الذي حدث نهاية الأسبوع الماضي؟!، ومن المتوقع تكرار حدوثه الاثنين بعد القادم أي بعد أسبوعين عند الاحتفال رسمياً بحلول العيد الوطني السابع والعشرين للجمهورية اليمنية، وبذات الكيفية التي حدثت منذ العام 2012م حتى اليوم، وسط صمت مريب ومخجل ومؤسف حتى من أقرب المقربين لصانع ذلك الحدث العظيم، ليس فقط وهو مازال حياً يُرزق بين ظهر انينا، بل وهو في أوج تألقه وتنامي وتضاعف محبة واحترام وتقدير مواطنيه له، وامتلاكه شغاف قلوب الملايين من البسطاء من عامة الشعب، ليس تزلفاً لشخصه، ولا طمعاً في مغنم قد يحصلون عليه، أو عطايا قد يحظون بها أو مناصب قد توكل إليهم، فالرجل باختصار شديد لم يعد يمتلك أي سلطة رسمية يمكنه من خلالها أن يغدق عليهم بأيٍ من ذلك.
هذا الرجل يقود فقط من موقعه الجديد في قمة هرم الكيان السياسي الذي أنشأه وأسسه بعيداً عن كرسي الرئاسة وصولجان الحكم الملحمة الأسطورية في الثبات والتصدي للعدوان البربري الهمجي الوقح للتحالف الدولي المخزي ضد اليمن العظيم وضد العمالقة من اليمانيين الشوامخ مستخدماً في سبيل تحقيق ذلك كل ما وهبه الله من قوة وذكاء ودهاء وحنكة وفطنة وخبرة تراكمية اكتسبها أثناء وجوده في سدة الحكم طوال ما يزيد عن ثلاثة عقود من تاريخ اليمن المعاصر، ومن المفارقات العجيبة أن كل من تزعم المطالبات برحيله من السلطة ومن موطنه سقطت أقنعتهم جميعاً وبدت للعيان سوءاتهم، بعد أن رحلوا جميعاً بكل حقارتهم ووضاعتهم خارج اليمن العظيم، بعد أن لفظهم التراب اليمني تماماً كما يلفظ البحر الجيفة المنتنة من جوفه.
مر يوم الخميس الماضي المصادف للسابع والعشرين من أبريل مرور الكرام، وكأنه لا يحمل أي معني أو دلالة في الذاكرة اليمنية المعاصرة، بتجاهل رسمي لافت في كل وسائل الإعلام الرسمية، لدلالات وأهمية هذا اليوم العظيم، الذي خاض فيه اليمانيون في عموم محافظات ومديريات ومراكز وقرى الجمهورية اليمنية الموحدة تجربتهم الديمقراطية الأولى عبر صناديق الاقتراع بعد استعادتهم لحمة وطنهم، وركلهم لكل البراميل الشطرية المقيتة، وانصهارهم رسمياً وشعبياً في وطن الثاني والعشرين من مايو المجيد لانتخاب أعضاء السلطة التشريعية المتمثلة بمجلس النواب، فشكل هذا اليوم في الوجدان اليمني عرساً ديمقراطياً حق لنا أن نتوقف عنده ونحتفي به في كل عام، خصوصاً في هذه الظروف الاستثنائية التي يتعرض فيها وطننا العظيم لانتهاك سيادته وأمنه واستقلاله منذ أكثر من عامين، ويرزح مواطنوه تحت حصار شامل براً وجواً وبحراً، وتئن أجزاء منه تحت وطأة الاحتلال ممن يفترض أنهم أشقاء لنا في اللسان والدين والعروبة بذريعة فاضحة تشكل قمة السذاجة والاستغباء وهي إعادة شرعية مزعومة للحكم، بينما غالبية أعضاء مجلس النواب - وهو الكيان الشرعي الحقيقي الوحيد - منتظمون في عقد جلساتهم بالمقر الرسمي لمجلسهم في العاصمة صنعاء، يلقمون أدعياء الديمقراطية والشرعية أحجاراً في أفواههم وسياطاً من نيران جهنم في أدبارهم.
تلك دلالات نحن في أمس الحاجة لتذكرها، وفي أشد الحاجة للتذكير بها الآن ونحن نخوض غمار هذه المحنة العصيبة، وأخشى أن يحل العيد الوطني السابع والعشرين للجمهورية، ونشاهد ونسمع أفلاماً وثائقية وتناولات صحفية تصور لحظة رفع علم الجمهورية اليمنية في قصر الرئاسة في مدينة (عدن) إيذاناً بميلاد الجمهورية اليمنية دون أن نشاهد أو نسمع أو نقرأ عن ذلك الذي استلم بكلتا يديه الكريمتين العلم الوطني ورفعه ليحتضنه برأسه كأنه يستنشق عبقه ثم يقبّله ويبدأ في رفعه عالياً خفاقاً في السماء، وأنظار كل الحاضرين شاخصة إليه وهو يرتفع رويداً رويـداً وأعينهم تفيض بالدموع.. ومما يبعث على الأسى والأسف والخجل معاً أن يعمد القائمون علي الإعلام الرسمي خلال السنوات الماضية إلى الاكتفاء بإظهار العلم وهو يرتفع دون بث بقية تفاصيل الصورة الحية الموثقة ودون إشارة لمن قام برفع ذلك العلم، والجهود الوطنية المضنية التي بذلها هو وكوكبة من الوطنيين ليصل بسفينة الوطن الموحد لذلك اليوم العظيم من الدهر الذي لم تصنع أشعته شمس الضحى بل صنعه اليمانيون بعون ومباركة من الله بأيديهم.
وإذا كان هذا الأمر على غرابته واستهجانه مفهوماً ومفسراً منذ العام 2012م حتى العام الماضي، فإنه إن تكرر حدوثه هذا العام أيضاً فسوف يضع علامات استفهام وتعجب كبرى، وبالذات بعد التحالف السياسي الرسمي القائم والمدعوم برلمانياً من مجلس النواب والموثق بالإرادة الشعبية العارمة بين المؤتمر الشعبي العام وحلفائه وأنصار الله وحلفائهم الشركاء في الثبات والتصدي للعدوان الغاشم وما انبثق عن ذلك التحالف من تشكيل المجلس السياسي الأعلى كأعلى سلطة سياسية رسمية تدير شئون الحكم وحكومة إنقاذ وطنية.
بل إنني أتساءل: لماذا لا يكون مؤسس الجمهورية اليمنية وأول رئيس حاكم لها في مقدمة صفوف المحتفين بهذا الحدث التاريخي العظيم يوم الاثنين بعد القادم والذي سيصادف الثاني والعشرين من مايو المجيد، وأضيف لذلك التساؤل تساؤلات أخرى : ما الحرج أو المانع الذي قد يحول دون قيام المجلس السياسي الأعلى رسمياً وفي لفتة كريمة منه ستحتسب له بالتأكيد بتوجيه الدعوة رسمياً للرئيس الصالح لحضور مراسيم الاحتفال الرسمية بعيد أعيادنا الوطنية، بل وما الحرج أو المانع في أن تتضمن تلك المراسيم تكريماً رسمياً رمزياً له؟، وما الحرج أو المانع في أن تقوم كافة وسائل الإعلام الرسمية المملوكة للدولة بسرد محايد للوقائع والمحطات التاريخية التي أفضت في نهاية المطاف للوصول لتحقيق حلم الأحلام الأغلى في قلوب اليمانيين وأعظم أمنياتهم من رب العالمين في هذا اليوم الخالد، ولعل لنا فيما ابتدأنا به هذا المقال دروساً نستلهمها فيما يتعلق بهذا الأمر، وبهذا نؤسس ونرسخ لتقاليد رئاسية راقية وسامية وعظيمة، لا يتجاهل فيها الحاكم الجديد أو يغيب فيها من سبقه من الحكام الذين ما يزالون على قيد الحياة، وأعود للتأكيد مجدداً علي جمال وروعة ذلك الحدث -إنْ حدث- ورمزيته ومدلولاته وما سيتركه في قلوب وأفئدة الأعداء قبل الأصدقاء، ناهيكم عن أثره العميق في قلوب وأفئدة اليمانيين، وبالذات ونحن نعيش في ظل هذا الظرف الاستثنائي العصيب من تاريخنا المعاصر.
|