الميثاق نت -

الثلاثاء, 13-يونيو-2017
د.عبدالرحمن أحمد ناجي -
ليس أمام المدعو (البيض) سوى خيارين لا ثالث لهما، الخيار الأول : الهروب بحراً بمركب صغير (صنبوق) باتجاه جيبوتي، أو براً لسلطنة عمان وقد أعطينا الأوامر للقوات المسلحة بعدم اعتراضه والسماح له بالمرور حقناً لدماء اليمانيين، والخيار الثاني : تسليم نفسه لأقرب مركز شرطة لمحاكمته وليقول القضاء فيه كلمته.. كانت تلك من الكلمات التي قيلت في الأيام الأخيرة من حرب تثبيت وترسيخ دعائم الوحدة ونسف المشروع الانفصالي الخبيث في صيف العام 1994م، تحدث الرئيس الصالح مقدماً النصيحة للناكص للتو عن الوحدة المدعو علي سالم البيض وهو الذي فقد بسبب ذلك أي مشروعية دستورية أو جماهيرية شعبية حينما أعلن ليلة عيد الأضحى المبارك الذي وافق يومئذ 21 مايو 1994م ما أسماه فك الارتباط عن الجمهورية اليمنية ظناً منه - وبعض الظن إثم - أن بمستطاعه العودة بعقارب الساعة لما قبل الثاني والعشرين من مايو المجيد في العام 1990م.
يومها تعجبت كثيراً وشاركني تعجبي الكثير من أصدقائي، حتى لقد ذهب البعض منا للجزم بأن الرئيس الصالح إنما كان يريد بتلك الكلمات رفع الروح المعنوية للأبطال الميامين المدافعين عن وحدة أراضي الجمهورية، أو من باب المزاح والسخرية والتهكم لتأجيج الحرب الإعلامية فقط لا غير، ولم تمر إلا أيام معدودة حتى استجاب الخائن البيض لأحد الخيارين المعروضين من الرئيس الصالح وولَّي مدبراً فاراً بجلده وبما تمكن من نهبه من ثروات وطنية إلى سلطنة عمان، رغم أنه كان هو ومرافقوه في موكب الهروب المخزي في مرمي مدفعية وصواريخ قوات الجيش وتحت أنظارهم، إلا أن الأوامر كانت تقضي -كما أسلفت- بتمتعه بحرية المفاضلة بين الخيارين واختيار أحدهما وعدم التعرض له بسوء أو استهدافه أو المساس به إنْ هو استجاب وأذعن لأيٍّ منهما.
وفي أعقاب حرب صيف 1994م دفع الرئيس الصالح بملف احتلال دولة (اريتريا) لجزر حنيش تحت ذريعة وقوع أرخبيل حنيش بأكمله ضمن حدودها البحرية لمحكمة العدل الدولية لتقول الكلمة الفصل فيها بعد أن أوكل مهمة التقاضي لاستعادة تلك الجزر الى فريق محترف من المحامين والخبراء اليمنيين والعرب معززين بكافة الوثائق القانونية التي تدحض تلك الادعاءات الاريترية جملة وتفصيلا، وتلقَّى الرئيس الصالح نتيجة لذلك طوفاناً من الانتقادات والشائعات عن أسباب لجوئه للحلول السلمية القانونية عن طريق التحكيم الدولي عبر محكمة العدل الدولية للفصل في تلك القضية، وعدم إصداره الأوامر العسكرية الحاسمة لوحدات الجيش المختلفة بطرد وتطهير تلك الجزر المحتلة من الاريتريين.
لكن الرئيس الصالح تسامي كعادته على كل تلك الأصوات العالية التي وصل البعض منها للتشكيك في مدى وطنيته واتهامه بعقد صفقة سرية مع الرئيس الاريتري تقضي يغض الطرف عن احتلاله لتلك لجزر واعتبارها هدية لاريتريا، مقابل موافقته على استقبال طائرات الخطوط الجوية (اليمنية) والاحتفاظ بها في مطار أسمرة إلى أن تضع الحرب أوزارها ويجري إخماد فتيل فتنة الانفصال، ويعلن رسمياً عن انتهاء العمليات العسكرية، إلا أن الرئيس الصالح ضرب أروع الأمثلة في كيفية التعاطي مع الخلافات الحدودية الثنائية بين الجيران والأصدقاء بالطرق السلمية والقنوات القانونية بعيداً عن منطق القوة والاقتتال والاحتراب، خصوصاً وأن جراح اليمن النازفة لم تندمل بعد جراء خوضها حرب صيف 1994م.
كما تجلت في نفس الوقت حكمة الرئيس الصالح ونظرته الثاقبة للأمور، حيث نجح في النأي بوطنه عن المخطط الصهيوني الخبيث لفرض الهيمنة الدولية علي مضيق باب المندب بذريعة أن الدول المطلة عليه لا تملك القدرة الكافية على توفير الأمن الأمان اللازمين للملاحة الدولية فيه، وذلك إن هم نجحوا في استدراجه لمواجهة عسكرية طاحنة مع اريتريا، من شأنها أن تخلط الأوراق جنوب البحر الأحمر وبالقرب من ذلك المضيق الاستراتيجي المهم للغاية، وبذلك كانوا سيضمنون أيضاً تواجداً عسكرياً دائماً للصهاينة من خلال تمكينهم من إقامة قواعد عسكرية في تلك الجزر، وكانت المفاجأة التي أخرست كل الأصوات سواء التي كانت تدفع نحو استعادة تلك الجزر بالقوة العسكرية أو تلك المتأبطة شراً بوطننا العظيم، وذلك بصدور الأحكام القضائية لمحكمة العدل الدولية لصالح (اليمن)، وتمكينه من استعادة سيطرته على كافة تلك الجزر.
وفي تطور لاحق وحينما كانت الطائرات العسكرية الأمريكية تتزود بالوقود في مطار (عدن) الدولي أثناء تنفيذ عملية (إعادة الأمل) في الصومال، تحدث الرئيس الصالح محذراً طواقم تلك الطائرات من الضباط والجنود الأمريكيين بأن عليهم أن يلزموا مقرات إقامتهم بفندق موفنبيك عدن، والحرص على عدم التجول في أرجاء المدينة لأنه لا يضمن تعرضهم للمضايقات من الشعب اليمني المسلح بأكمله، أيامها تم الإعلان أيضاً عن بيان لوزارة الدفاع اليمنية بأن أي تحويم للطائرات العسكرية الأمريكية على ارتفاعات منخفضة ودون تنسيق وإذن مسبق من وزارة الدفاع يعتبر انتهاكاً صارخاً لسيادة اليمن على أجوائه وأراضيه، وسيجعل تلك الطائرات تحت رحمة المضادات الأرضية اليمنية، طالما كانت في مرمى نيران تلك المضادات، ورغم سخرية الكثيرين وتهكمهم وتندرهم على التصريحين ووصفهما بالعنتريات المبالغ فيها، واستهزائهم وتشكيكهم بمدى قدرة وتمَكُّن الرئيس الصالح ووزارة الدفاع من التصدي لجنود وضباط الدولة المهيمنة على كوكب الأرض، أو بإطلاق نيران المضادات صوب المقاتلات الأمريكية، لكن الجانب الأمريكي تعاطى مع التصريحين بجدية كاملة، وألغى اتخاذ (عدن) كمحطة للتزود بالوقود واستبدلها بجيبوتي، وكفت طائراته عن التحليق في سماوات (اليمن) العظيم.
تلك كانت ثلاثة أمثلة على الحكمة والذكاء والدهاء الفطري الذي امتلكه الرئيس الصالح أثناء فترة حكمه في التعاطي مع التحديات الداخلية والإقليمية والدولية.. وبالأمس القريب وهو بعيد عن كرسي الرئاسة، وبعد تمادي الأشقاء وتطاولهم على وطننا وشعبنا، أعلنها مدوية وفي وقت مبكر جداً بأن المعادلة ستتغير في المنطقة العربية، كنتيجة طبيعية ومنطقية للمغامرة غير المحسوبة التي انزلق إليها الأشقاء والتي سال لها لعابهم بالاعتداء على اليمن، معتقدين أن اليمن العظيم بات في أسوأ حالاته اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وصار تماماً ليكون لقمة سائغة سريعة المضغ والالتهام، وأنهم قد حصنوا أنفسهم جيداً من كافة العواقب المحتملة التي قد تنتج عن إقدامهم على تلك المغامرة، وذلك بولوجهم في أتونها في إطار تحالف دولي تتفرق فيه دماء اليمانيين المراقة بين كل الدول المنضوية في ذلك التحالف، معتقدين أنهم بذلك قد ضمنوا تحقيق أهدافهم ومطامعهم خلال أيام أو أسابيع معدودة تالية لبدء عدوانهم الآثم.
وها نحن اليوم وبعد مرور أكثر من 800 يوم منذ بدء ذلك العدوان البربري الهمجي الغاشم على وطننا، ذلك العدوان الذي استدرج إليه الأشقاء بغبائهم المعهود والمشهود تحت سيناريو دولي تم الإعداد له سلفاً في الدوائر الصهيونية وأطلقوا عليه اسم الحرب المنسية، بدأنا نقف بالفعل علي مشارف ارهاصات وتباشير تغيير جذري في المعادلة السياسية والعسكرية في المنطقة بأسرها من المحيط للخليج، ها نحن خلال الأيام القليلة الماضية نشهد بأم أعيننا أحداثاً ومخاضات مازالت حتى الآن في طور التشكل والنمو يوماً بعد يوم، فها هي ربيبتهم قطر الأثيرة المدللة لديهم فيما مضى بعد أن ارتدت عباءة أكبر منها بكثير، ولعبت بإسناد وإيعاز منهم أدواراً خبيثة تفوق حجمها ومكانتها الطبيعية في تأجيج نيران الفتنة والضرب على كل أوتارها بين الحكام والمحكومين منذ العام 2011م حتى اليوم في أكثر من قُطْر عربي، ها هي قطر تتقزم اليوم من جديد وتذوق وبال أمرها، لتجد نفسها وقد أصبحت مضطرة ومجبرة على الانحناء الشديد وهي واقعة ما بين المطرقة والسندان.
ففي ما يشبه العاصفة الهوجاء التي لا تبقي ولا تذر، وبعد أيام معدودة من زيارة الرئيس الأمريكي ترامب، واستقباله استقبال الفاتحين في عاصمة العدوان الرياض ورئاسته قمة إسلامية فيها!!، ومغادرته المملكة بعد أن نجح في حصد مئات المليارات من الدولارات من ممالك الرمال نظير قيام دولته بحماية تلك الأنظمة الكارتونية طوال عقود مضت، وخلال أيام معدودة تلت تلك الزيارة (المباركة) تم شيطنة قطر بعد أن بدا أنها تحاول التغريد خارج السرب الخليجي، وتحاول التملص من الالتزام بسداد الفاتورة الأمريكية القاصمة للظهر، وهي التي تستضيف في أراضيها منطقة العيديد أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، ليتم تحميلها وحدها منفردة وزر وتبعات الدعم غير المحدود للحركات والتنظيمات الإرهابية وكل الشرور في العالم، وبدأت الإجراءات العقابية تتداعى فبعد ساعات من الإعلان رسمياً عن إنهاء مشاركة قطر من المشاركة في تحالف العدوان على اليمن، قامت جارتها (الكوبرى) بقطع علاقاتها الدبلوماسية معها لتتضامن معها وفي ذات التوقيت وتقوم بذات الفعل دولة الإمارات والبحرين ومصر فتستدعي تلك الدول سفراءها في قطر وتطرد سفراء قطر فيها، ثم يتم اختراق الأمن القومي الإيراني لتتلقى إيران ضربتين إرهابيتين موجعتين وصادمتين وفي قلب العاصمة طهران، فيتم استهداف رمزين من رموز السيادة فيها وهما مبنى البرلمان وقبر الخميني مؤسس الجمهورية، ثم يعلن البرلمان التركي موافقته ومباركته لإرسال قوات برية لحماية قطر.
نشهد المنطقة اليوم مخاضات تشكل تحالف الكيانات الدولية المتناقضة ما بين إيران المجوسية الرافضية -كما يحلو لإعلام ممالك الرمال الخليجية تصنيفها- وتركيا الداعم الرئيس الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين، لنجدة قطر التي أبرمت معاهدات دفاع مشترك مع الدولتين، ويشمل ذلك التحالف العجيب عراق ما بعد صدام حسين، في مواجهة التحالف الدولي المناهض لها، لتسقط أوراق التوت التي كانت تواري سوءات بقية الممالك الرملية الواحدة تلو الأخرى، ولتلعب الولايات المتحدة والكويت وعمان دور الوسيط للتهدئة، وينشغل الجيران «الأشقاء» المعتدون بأنفسهم وترتيب أوضاعهم الداخلية، وليرد الله كيدهم تجاه اليمن العظيم الى نحورهم، ويجعل الدائرة تدور عليهم.
إننا نقف اليوم فعلياً أمام إرهاصات تغيُّر المعادلة تماماً كما توقعها الرئيس الصالح، ومازالت الأيام القادمة حُبلى بالأحداث، ولنتذكر الحقيقة التي نؤمن بها جميعاً والتي وردت في مقولة شهيرة له مطلع العام 2011م بأن كل ما يجري في العالم العربي من فوضى خلاقة يتم التخطيط والإعداد له في كلٍ من تل أبيب وواشنطن ومن خلال الموساد و(السي آي إيه)، وظني أن الأمر مازال كذلك، حتى حينما يبدو للعيان أن الأمر قد فلت من أيديهما ولم يعد تحت سيطرتهما.
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 22-نوفمبر-2024 الساعة: 04:36 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-50640.htm