د. وهيبة فارع -
تعزيز مسار العلاقات السياسية بين اليمن ودول الخليج لم يعد مطلباً سياسياً فقط وانما هي رغبة شعبية انسانية لمجتمعات يلتقي فيها العنصر السياسي بالانساني بحكم الموقع الجغرافي والتاريخي الذي يربطها بمصالح مشتركة منذ القدم بعيداً عن التنظير الايديولوجي.
فإذا كان من الضرورة بمكان التذكير بأهمية العلاقات التجارية والاقتصادية والسياسية والأمنية المشتركة بين اليمن والخليج واستعراض المصالح المشتركة في كل مناسبة يأتي فيها ذكر تطوير العلاقات بين الجانبين، فإن من المهم الاشارة الى التجانس الثقافي لدول المنطقة الذي يلعب دوراً أكبر في تدعيم اندماج اليمن في مجلس التعاون لدول الخليج العربي في مختلف المجالات ومنها الاقتصادي، ذلك ان مقومات العمل الانساني المشترك في منطقة الجزيرة والخليج تكتسب الديمومة بعيداً عن أية تبريرات آنية نظراً لأهمية عنصري التاريخ والجغرافيا اللذين تتوقف عليهما مجمل العلاقات الثنائية العفوية بين أبناء المنطقة.
فدول المجلس تتطلع اليوم الى تعزيز شراكاتها التجارية والاقتصادية مع الجمهورية اليمنية كما تتطلع اليها اليمن، وهي تتابع عن كثب الجهود التي تبذلها الحكومة اليمنية لتهيئة البيئة الاستثمارية المشجعة لجذب الاستثمارات كدولة تتمتع بموقع فريد ومناخ متعدد وكثافة سكانية توفر القوة العاملة والسوق الاقتصادية الواسعة، وبتواجد الثروات الطبيعية بما يكفي لإحداث نقلة نوعية في اقتصاد البلاد وتحقيق تنمية مستديمة تمكنها من الاندماج الحقيقي مع دول المجلس التي قطعت شوطاً في هذا المجال والانطلاق نحو السوق الدولية.
هذه المعطيات تجعل اليمن ودول الخليج امام استحقاقات تاريخية لتحقيق شراكة وتحالف لتأكيد حضورهما الفاعل في الساحة الدولية على ضوء المتغيرات المتسارعة التي يمر بها العالم اليوم والتي تعتمد في جانبها الاقتصادي على تكوين التحالفات الاقليمية في مواجهة هذه التحديات وفتح الاسواق أمام التجارة الحرة والحد من القيود على التبادل التجاري.. وهذا الاستحقاق يتمثل في تلبية المصالح المشتركة المحكومة برؤى وقناعات متبادلة بين جانبين يملكان من نقاط القوة والتميز في منظومة الاقتصاد العالمي ما يؤهلهما لبناء تكتل اقليمي واعد في ظل تفهُّـم دولي لحاجة المنطقة لإقامة مثل هذه الشراكة بعيداً عن السياسة.
من هنا لابد ان تتمثل الرؤىة المستقبلية للعلاقات الخليجية اليمنية بمحددات الشراكة الاقتصادية والتجارية مع مراعاة الابعاد الاخرى التي تشمل آفاق الشراكة التنموية مع القطاع الخاص المحلي، وتنمية الموارد البشرية في سبيل رفد سوق العمل في دول مجلس التعاون بالعمالة اليمنية الماهرة التي انطلقت صوب دول المجلس تلقائياً مع ظهور الحقبة النفطية لتمتد الى تجذير العلاقات الانسانية والمجتمعية التي تشكل بُــعداً آخر من التحالفات البشرية لمجتمعات المنطقة.
فالتطورات السياسية الحالية في المنطقة تلعب دوراً في مستقبل العلاقات اليمنية الخليجية على المستوى القريب او البعيد باعتبار المنطقة تعيش حالة استثنائية مما يجعل انضمام اليمن الى مجلس التعاون الخليجي ضرورة استراتيجية للاستقرار في ظل التطورات الاقليمية والدولية، ذلك ان تأهيل اليمن للانضمام الى دول المجلس عملية تتلاقى فيها الأبعاد الامنية والاقتصادية التي تربط اليمن بدول الجزيرة العربية بحكم الموقع والمصالح المشتركة، ولكن التركيز على بعض جوانب التكامل يُـبقي على مراوحة العلاقات عند مستوى التنظير، مالم تتبع هذه الاتجاهات اجراءات فعلية تتجاوز بها دول المجلس حدود الدعم المادي لمجهودات التنمية والاصلاحات والاشادة بها، بالانتقال بهذه العلاقة الى مرحلة تبني دعم قضية الاصلاحات الجوهرية ذاتها في جوانبها الاقتصادية والادارية كي تقف اليمن على قدميها أسوة بما هو متبع في التجمعات والتحالفات التي تقوم بتدوير عوائد الامكانات لتشمل دول الشراكة بالحد المتوسط او الادنى من فوائد النمو، حيث يتم تأهيل الدول الاقل نمواً للأخذ بيدها لتتمكن من تحقيق التنمية بجهود ومساعدة التحالف الاقليمي الذي تنتمي اليه.
نعم، ذلك لابد ان يتبع ذلك تصعيد وتيرة التنمية والتطوير والاصلاحات وفتح مجالات أرحب للاستثمار وتهيئة الاجواء الملائمة امامها من جانب اليمن، بالقدر الذي يسهم في تعزيز التكامل وينمي مجالات التعاون المستقبلي، لكن مع ذلك لابد من الاعتراف بأن الجهود المبذولة تواجه بتحديات اهمها ضعف الامكانات التي تظل الشغل الشاغل للمواطن اليمني الذي نراه اليوم يواجه وحده مشكلة التضخم العالمي الذي ينعكس سلباً على حياته اليومية في صور من الغلاء الفاحش الذي لاتتحمله قدرات البلاد الاقتصادية مقارنة بدول المجلس خصوصاً في مرحلة التهيئة والاعداد للتأهيل للانضمام للشراكة وذلك من شأنه ان يؤخر هذا الطموح.
ان المتتبع لطبيعة العلاقة بين اليمن ودول مجلس التعاون الخليجي يلحظ عمق العلاقات الانسانية الضاربة في عمق التاريخ بمحدداتها البيئية والحضارية المبنية على قواسم انسانية مشتركة، وليستنتج ضرورة دراسة وتحليل الصعوبات التي تبطئ عملية الاندماج والتكامل حتى يسهل تجاوزها، وهي في مجملها لاتتعلق بالمواطن اليمني او الخليجي وحدهما بمعزل عن الاجراءات والسياسات، فقد امكن تحقيق طفرة باتجاه تنمية التبادل التجاري بين اليمن ودول الخليج وجني بعض ثماره في الاعوام الاخيرة عندما أتيحت فرص زيادة نسبة الحراك الاجتماعي والاقتصادي بين اليمن ودول المجلس والتي تؤكد رغبة المواطنين في الجانبين تسريع عملية التكامل وتقوية أواصر القربى والجوار.
من هنا تأتي أهمية دعم دور القطاع الخاص اليمني والخليجي للنهوض بالاستثمارات المشتركة وتسهيل اجراءاتها، والتوسع في اقامة الفعاليات المشتركة بهدف التعريف بمناخ وفرص الاستثمار المتاحة، وهذا يقتضي تنسيق الجهود المشتركة من المستثمرين للسعي لدى حكوماتهم لتذليل الصعوبات والمشاكل التي تعترضهم وهي مهمة تحتاج الى خطوات شجاعة وداعمة من قبل حكومات المجلس لتوفير الحد الادنى من الضمانات للقطاع الخاص التي لا تتوافر لدى اصحاب رأس المال وحدهم وانما تحتاج الى رفدها بقرارات سياسية واضحة.
كما ان من المهم بمكان تحديد المصالح المشتركة لاستقرار الأوضاع الامنية والسياسية لكل دول المنطقة وهي وان كانت ضرورية لليمن- وهي كذلك- فإنها ايضاً ضرورية لكافة الاطراف المعنية في الاطار الجغرافي الواحد من أجل تعزيز العلاقة الاستراتيجية والدفع بها نحو الشراكة والتكامل والنماء استجابةً لتلك المصالح والتي قد تنعكس ايجاباً على مختلف الشركاء في دول المجلس في ظل التوجهات الدولية نحو الشراكة والتعاون في تجمعات اقليمية بعضها يفتقر الى الحد الأدنى من المقومات التي تجتمع لدول الخليج مع اليمن.
كما أن الحرص على التعامل بشفافية نحو تنمية مجالات التعاون والتواصل بين اليمن ودول الخليج بصورة عملية ملموسة تقتضي تكثيف الجهود لاصلاح الاختلالات القائمة، من اجل ايجاد بيئة أرحب للاستثمار كي يصبح اليمن شريكاً فاعلاً عوضاً عن كونه متفرجاً، رغم المزايا الحقيقية التي يتمتع بها وما يمتلكه من عمق استراتيجي جغرافي وبشري لدول المجلس وهو ما يستدعي دراسة الآليات المتاحة لتشجيع التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري وقيام صناعات تحويلية تعتمد على استثمار الثروات الطبيعية للطرفين، والتي من شأنها زيادة وتفعيل العلاقات بشكل ايجابي.
ونظراً للمتغيرات التي تشهدها المنطقة في ظل المتغيرات الدولية والمساعي الحثيثة لاعادة تشكيل النظم القائمة في المنطقة فإن دول الجزيرة والخليج تجد نفسها في موقف يتطلب اتخاذ قرارات تاريخية، فالحاجة تستدعي اعادة النظر في واقع ومستقبل دول مجلس التعاون الخليجي، والبحث في أفضل الطرق لتحقيق التكامل الاقتصادي والتجاري والأمني والعسكري مع كل دول المنطقة والانفتاح المسئول على العالم، والبحث عن وسائل اكثر فعالية لمساعدة وتأهيل الاقتصاد اليمني للانخراط في مشاريع التكامل الاقتصادي، والعمل على استيعاب اليمن ضمن أية ترتيبات مستقبلية في المنطقة، باعتبار ذلك هو السبيل الوحيد للتماشي مع متطلبات التغيير الذي يفرض على اليمن لعب دور متزايد في مشاريع مستقبل الاقليم.
فالمتتبع لمسار العلاقات السياسية بين اليمن ودول المجلس يجد أن قيام الوحدة اليمنية عام ٠٩٩١م، قد أسهم في ترسيخ الاستقرار في المنطقة، الذي انتهى بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود النهائية مع السعودية وعمان، وفتح ابواب مجلس التعاون الخليجي لعضوية اليمن بجدية منذ قرار قمة مسقط بضم اليمن الى عضوية أربع مؤسسات خليجية، التي أعادت علاقات اليمن الى طبيعتها مع كل دول المجلس وأصبحت الهموم اليمنية- الخليجية متقاربة كثيراً في الآونة الأخيرة وأصبح الاحساس بضرورة التكامل امراً واقعاً لمواجهة الهاجس الأمني في ظل ما تشهده المنطقة من أحداث وهو ما شجع اليمن على طلب الدعم الاقتصادي ليتأهل لدخول المجلس من منطلق الروابط والمصالح المشتركة التي كان من الطبيعي أن تجعل اليمن ضمن منظومة دول الجزيرة بما يمكنها من الوقوف في وجه التحديات والمتغيرات الاقليمية والدولية التي ساعدت بتحريك اليمن نحو محيطها، في حين كان من المفترض أن تتحرك مصالح دول الخليج نحوها.
ومنذ أولت اليمن علاقتها بدول مجلس التعاون الخليجي أهمية خاصة في سياستها الخارجية خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي وكانت حريصة على إزالة التداعيات السلبية لحرب الخليج الثانية فوقَّـعت على معاهدة الحدود البرية والبحرية مع السعودية، وواصلت العلاقات اليمنية الاماراتية تقدمها الملموس في مختلف المجالات وتعتبر العلاقات بين البلدين الشقيقين انعكاساً لتوافق الرؤى لدى القيادتين السياسيتين وتطابقهما، وشهدت العلاقات اليمنية الكويتية تطوراً ايجابياً وانفتاحاً صادقاً، بعد الانفراج الكبير في العلاقات السياسية بين البلدين الشقيقين، واضافت اتفاقية ترسيم الحدود بين اليمن وعمان بعداً حقيقياً الى العلاقات العمانية اليمنية والخليجية عموماً.
ومن أجل تحقيق الانضمام الى مجلس دول التعاون الخليجي بذلت الحكومة اليمنية جهوداً واضحة لتحديث نظامها الاداري والارتقاء به من أجل التخلص من العديد من السلبيات مثل الروتين ومعالجة تفشي ظاهرة الفساد، وسعت الى تطبيق برامج اصلاحية شاملة من خلال تحديث القوانين والأنظمة الاقتصادية والمالية والادارية وتفعيل مبدأ الشفافية والمحاسبة ورفع درجة الحرية الاقتصادية أسوة بالدول المجاورة، ورفع مستوى الشفافية في القرارات الاقتصادية ودفع القطاع الخاص الى اكتساب خبرات أوسع في التجارة واستيعاب الاستثمار الأجنبية.
لكن ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض مستوى خدمات البنية التحتية مازالت تشكل أهم العوائق لتطوير الاستثمار الأجنبي في اليمن، بمعنى أن هناك ضرورة ملحة لتهيئة هذا المناخ في اليمن ليصبح مغرياً لجذب الاستثمارات خليجية كانت أو غير خليجية، مع توفير شروط ومعايير التنافسية في كافة الجوانب المتعلقة بالاستثمار من تخطيط وتسويق، مستفيدة من تجارب دول المجلس التي مرت بها، وتوجيه الدعم الخارجي نحو تعزيز الجوانب الاستثمارية والصناعات التحويلية في قطاعات النفط والزراعة.
لقد كان مؤتمر المانحين مثالاً ايجابياً للعمل المشترك بين اليمن ومجلس التعاون بشهادة الجميع، سواءً في الإعداد له أو في النتائج التي توصل اليها.. حيث بلغ حجم التعهدات المالية اثناء المؤتمر اكثر من ٧.٤ مليار دولار لتمويل المشاريع خلال الفترة (٧٠٠٢-٠١٠٢م)، وفاق حجم التعهدات في ذلك المؤتمر حجم التعهدات في أي من مؤتمرات المانحين السابقة لدعم الاقتصاد اليمني حيث قارب سقف التعهدات منذ مؤتمر لندن خمسة مليارات دولار.. وقد أكدت دول المجلس في مؤتمر المانحين على أهمية الشراكة الاقتصادية طويلة المدى بين الجمهورية اليمنية ودول المجلس، وتم الاتفاق على تمويل مشاريع التنمية في اليمن في مناخ اقتصادي شفاف في ظل الاصلاحات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة اليمنية وشرعت في تنفيذها.
نحن ودول الخليج الآن أمام مفترق طرق حقيقية تتزايد خطورتها مع تردّي الأوضاع والتهديدات العالمية لدول المنطقة ومازلنا نرواح في أماكننا، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، في حين أن الأوضاع تستدعي منا جميعاً أن نتجه دون إبطاء في طريق التكامل لضمان التنمية لجميع دول المجلس باعتباره السبيل الوحيد لحفظ الاستقرار الداخلي، والسلاح الفعال لمواجهة التحديات الخارجية التي لا يمكن مواجهتها بالفقر والتخلف أو برهن المنجزات التي تحققت لكسب الحماية وتحقيق الاستقرار، ويظل اليمن الأكثر حاجة للتنمية والأكثر امكانات واعدة اقتصادياً وبشرياً وسياسياً، إذا أحسن استغلال امكاناته وتهيئته للعب هذا الدور في التحالف المستقبلي لدول المنطقة، ونأمل أن تستفيد دول الخليج واليمن من هذه الفرصة لتصبح مشروعاتها في التكامل واقعية نلمس ثمارها الاقتصادية مبكراً، فقد اصبح الاقتصاد هو محور المداولات الدولية ولكنه يمكن أن يلعب دوراً أكبر عندما يلتقي مع بقية الجوانب الثقافية والمجتمعية التي تسهم الى حد كبير في ترسيخه كما هو الحال في دول تجمعها أواصر القربى وصلات الرحم بالقدر الذي تجمعها فيها المصلحة.