الميثاق نت -

الأحد, 27-أغسطس-2017
د.عبدالرحمن أحمد ناجي -
أكثر من 880 يوماً مضت كانت ومازالت أكثر فظاعة من أي كابوس يمكن أن يمر على عقول البشر أو يخطر ببالهم مجتمعين طوال حياتهم ، سواء في أحلام يقظتهم أو وهم مستغرقون في مضاجعهم في سُبات عميق ، أكثر من 880 يوماً عاشها ومازال يعيشها اليمانيون واقعاً مأساوياً مرعباً يلمسونه بكل حواسهم على مدار الساعة .
وحتى عند مشاهدة أفلام الرعب يدرك المشاهد في قرارة نفسه أن ما يراه مجرد مشاهد ممثلة غير حقيقية ، وأنه في كل مشهد هناك فريق عمل كامل يصطف خلف الكاميرات ، وأن مخرج الفيلم يعلو صوته بعد الانتهاء من تصوير كل مشهد مثنياً على أداء الممثلين أو طالباً منهم إعادة تمثيل المشهد لأن أداءهم لم يكُن مُرعباً بالقدر المطلوب ، أما ما اعتدنا على رؤيته خلال تلك الـ880 يوماً إما بأم أعيننا وعلى الطبيعة أو عبر شاشات التلفزيون ، فنحن ندرك أنها مشاهد حقيقية تأتي الكاميرات في وقت لاحق لتوثيقها ، للحوم بشرية مفرومة مختلطة بركام منازلهم وهم في غفوتهم مستسلمين للنوم ، وفي كل ليلة نتمدد فيها نحن في فُرُشِنا ، ونضع رؤوسنا على مخداتنا ، ونحاول فيها إغماض أعيننا ، ينتابنا الشعور المخيف ذاته بأننا قد لا نتمكن من فتح أعيننا مجدداً ، لو شاءت لنا الأقدار أن تكون أجسادنا هي الهدف التالي لما تنفثه طائرات المعتدين من مخلفات ستفتك بنا في لمح البصر وفي أقل من الثانية الواحدة ، لذا نجد ألسنتنا تلهج بصورة عفوية تلقائية بالشهادتين ، بعدها نشعر بطمأنينة عجيبة ، نسلم فيها أمرنا لله موقنين أن ما من أحد ينقضي أجله المحتوم إلا في توقيت معلوم ، وأن أحداً ممن خلقهم الله من الأحياء لا يملك تقديم ذلك التوقيت أو تأخيره ولو لجزء من الثانية .
وخلال الـ 880 يوماً الماضية وما سيليها بعد أيام ، وبالرغم من كل ما تقدم ، نجد أنفسنا كلما شاء لنا الله أن يحل عيدي الفطر السعيد والأضحى المبارك ونحن مازلنا على قيد الحياة مجبرين ومضطرين لاصطناع الفرحة قسرياً ، ولو من أجل أطفالنا وفلذات أكبادنا الذين هم في أمس الحاجة لفرض الفرحة عليهم بابتسامة آبائهم وأمهاتهم وقهقهاتهم إن لزم الأمر ، لعلهم بها ينجحون في إلهائهم وتغييب ما يستشعرونه من رعب تتسارع معه نبضات قلوبهم الصغيرة في كل ليلة من أذهانهم ولو بصورة مؤقتة لبضع ساعات ، وغالباً ما يعيننا الله على ذلك إن نحن أخلصنا النية ، وبذلنا أقصى ما نمتلك من طاقة امتثالاً لأمر الله بوجوب وحتمية طغيان الفرحة والبهجة والسرور في تلك الأعياد على ما سواها .
ومرت بنا خلال تلك الـ880 يوماً الكثير من الأعياد الوطنية ، لكنها كانت خالية من أي مظهر للفرحة إلا من إعلان وزارة الخدمة المدنية لتلك الأيام الوطنية إجازة رسمية نخلد فيها للراحة ولا نغادر فيها منازلنا إلا لما هو ضروري ولا غنى عنه لتسيير شئون حياتنا ، لكن يوم الخميس الماضي المصادف للرابع والعشرين من أغسطس كان له عندي وعند كل من شاركني التواجد في ذلك اليوم بميدان السبعين بالعاصمة صنعاء مذاق خاص ونكهة فريدة لم أتذوقها على المستوى الشخصي في حياتي ، وأكاد أجزم بأن ذلك المذاق وتلك النكهة قد استمتع بها كل من كان هناك ، وهناك الكثير ممن قضوا ليلتهم وليالي سبقت تلك الليلة هناك مفترشين الأرض ملتحقين السماء وهم غارقون في أقصى درجات المُتعة والتلهف لحلول ذلك اليوم ، بالرغم من أنه لم يكُن يوم إجازة رسمية سنوية ، فقط شاءت الأقدار ولعلها من تجليات كرم الله أن يحل هذا العام في يوم الإجازة الأسبوعية المعتمدة بالإضافة ليوم الجمعة طبعاً لمعظم موظفي الدولة .
إذ أشرقت شمس ذلك اليوم ، ونحن بالفعل كمن يعيش يوم العيد بفرحة حقيقية مكتملة ، حتى الهواء الذي يلج إلى صدورنا استشعرناه مختلفاً تراءى لنا كما لو كان يتراقص بهجةً وطرباً وهو يشق طريقه منساباً إلى الرئتين ، فساحة ميدان السبعين التي ستحتضن المهرجان كأن عيوننا لم ترها من قبل ، وقد ارتدت حُللاً فرائحية قشيبة وازدانت بالأعلام الوطنية والصور ، وإذا ما نحن التفتنا يمينا أو شمالاً أو للأمام أو استدرنا برؤوسنا وأجسادنا للخلف شاهدنا كل التفاصيل التي تقع عليها أعيننا كما لو كنا نشاهدها للمرة الأولى في حياتنا ، شمل ذلك المباني والتلال المحيطة القريبة والبعيدة .. وأشجار الحديقة الملاصقة للميدان على امتداد معظمه والمسماة باسمه ، حتى البشر المحيطين بك ربما تتضح لك ملامح تعرفها للبعض منهم ، لكنك تغرق في طوفان متلاطم لوجوه لم ترها في حياتك مطلقاً ، منهم من هو قادم بمفرده ، ومنهم من هو قادم بمعية أصدقائه ، ومنهم من هو قادم بمعية أطفاله ، وربما بمعية نسائه أيضاً زوجات أو أمهات أو بنات تاركاً إياهن ليلتحقن بباقي النساء في المواضع المخصصة لهن في الميدان .
تمضي الثواني والدقائق والساعات والقاسم المشترك للجميع الابتسامة التي تكسو الوجوه وليس فقط الشفاه ، وتسمع من حين لآخر انطلاق الضحكات من البعض وهم يروون الطرائف ، وتارةً تراهم وقد ارتفعت هاماتهم وأعينهم شاخصة للسماء وتسمع هتافاتهم بمنتهى الحماس ، عند ملاحظة البعض منهم لقدوم الطائرة الجوالة الحاملة لكاميرات التصوير وهي تحلق فوق رؤوسهم على ارتفاعات منخفضة منهم .. بالروح بالدم نفديك يا يمن .. نفديك يا صنعاء .. نفديك يا عدن ، وبدا للناظر إليهم والمتأمل فيهم أن كل فرد في تلك الحشود يعيش بالفعل على هذا الحال خارج ذلك الميدان .
الجميع ينتظرون بما تيسر لهم أن يحملوه في أيديهم بدء فعاليات ذلك العُرس الوطني العظيم ، وفجأة تجدهم وقد تسمروا في أماكنهم احتراماً وإجلالاً للنشيد الوطني الذي كان له هو الآخر وقع خاص في نفوسهم في ذلك اليوم الأغر ، بدأ الحفل وتوالت الكلمات والقصائد وبدأ البعض يتململ ويشق طريقه بصعوبة بالغة وسط الأجساد الملتحمة كالبنيان المرصوص متجهاً صوب أطراف الميدان مع تصاعد حرارة الشمس كلما اقتربنا من ظهيرة ذلك اليوم ، وإذا بصوت راعي المهرجان والداعي إليه يترقرق متهادياً عبر الأثير تتلقفه الميكرفونات المثبتة فوق العربات المتناثرة في مواضع متباعدة في أرجاء الميدان ، فإذا بالأمواج البشرية المتلاطمة الهادرة تستعيد انتعاشها وحماسها الذي كاد أن يذوي ويذبل ، وتتوجه مجدداً نحو المنصة الواقعة في قلب الميدان ، غير مصدقة أن ما كادت أن تفقد الأمل بتحققه قد حدث بالفعل ، وأن الرئيس الصالح متواجد أمام أعينهم بشحمه ولحمه وقد أبى كعادته إلا أن يشاركهم عيدهم واحتفالهم بذكرى تأسيس تنظيمهم السياسي الرائد رغم كل المخاطر المحدقة به والتي تهدد حياته منذ بدء العدوان .
هل للكون كله أن يتخيل كيف نجح هذا الرجل وبجدارة واقتدار في لم شمل كل تلك الملايين التي حضرت من كل وديان (اليمن) العظيم وسهولها وسواحلها وجبالها؟! ، وكيف استطاع هذا الرجل أن يُنسيهم في تلك الساعات المعدودة من صباح ذلك اليوم الأغر مواجعهم وآلامهم وأحزانهم ؟! ، ليس ذلك فقط بل كيف استطاع الرجل بصورة مذهلة أن ينسيهم أو أن يجعلهم ينتزعون خوفهم ورعبهم من أن تكون أجسادهم هدفاً قائماً محتملاً ولو بما نسبته 1% ، فتتحول بفعل قمة الجنون والهيستيريا التي قد تُصيب الأعداء إلى أشلاء وأكوام من اللحم المفروم المختلط بالعظم في ذات الميدان الذي شهد سيناريو مصغر مازال ماثلاً في مخيلاتهم قبل أعوام قريبة مضت ، نعم .. نعم .. لقد تمكن ذلك الرُبان الماهر وبنجاح مبهر ومنقطع النظير في صناعة فرحة عارمة في قلوب الجميع : الحاضر منهم ومن كان ينوي الحضور وحالت الظروف دون حضوره ، نجح في انتزاع تلك الفرحة العارمة من بين ركام الأحزان والمواجع والآلام التي تعتمل في نفوس وأفئدة وأرواح كل من حضر ذلك المهرجان وكل من تطلع لحضوره ، وكل من كان فيه بكل جوارحه عدا جسده ، وهو يشاهد وقائعه عبر شاشات التلفزيون .
وليَقُل المغتاظون في ذلك العرس الوطني ما شاءوا ، وليفتي المفتون منهم فيه بما أرادوا ، وليعلق المعلقون من المعتلين نفسياً ووجدانياً على الرئيس الصالح بما يشفي غليل صدورهم لعلهم بتلك التعليقات يستعيدون بعضاً من توازنهم النفسي المفقود منهم ، وليُكَذِّب الموتورون الحاقدون على الرجل كما شاءوا الحديث النبوي القائل فيما معناه : أن الله إذا أحب عبداً نادى منادٍ في السماء مخاطباً أهل الأرض إن الله أحب فُلاناً فأحِبُوه ، أو كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، واستشهدوا في تكذيبهم لذلك الحديث النبوي بحالات وأمثلة نادرة لا قياس عليها لأنبياء ورسل وصالحين اختصهم الله بابتلاءات فما نالوا حب الناس ليكونوا مثلاً وموعظةً لمن سواهم من البشر ، وليس لأنهم غير محبوبين لدى الخالق تبارك وتعالى ، فقد نجح ذلك الرجل بحق في صناعة الفرح لكل محبيه ومؤيديه رغم أنف كل أولئك الحاقدين والمعتلين والماقتين، ورغم أنف كل الأحزان المحيطة بهم .
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 02:47 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-51547.htm