الدكتور عبدالرحمن أحمد ناجي - تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال في عدد الأسبوع الماضي ما رأينا انه قد تحقق من الهدف الرابع من أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة التي نحتفل بذكراها الـ 55 يوم غدٍ الثلاثاء بمشيئة الله ، وينص ذلك الهدف العظيم على ما يلي : إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف .
وقبل أن نسترسل في موضوع المقال في الجزء الثاني والأخير منه نود التأكيد على ثلاثة أمور على درجة كبيرة من الأهمية :
الأمر الأول : أن المقام لا يتسع في هذه التناولة السريعة لتدعيم وجهة نظرنا بالإحصاءات الواقعية الدقيقة ، فالمقال الذي بين أيدينا ليس توثيقياً بقدر ما هو أقرب لسرد إشارات أو علامات أو ومضات (فلاشات) على طريق المحاولات التي بذلتها الحكومات الجمهورية المتعاقبة منذ قيام تلك الثورة المباركة حتى اليوم وهي تضع تلك الأهداف العظيمة التي صاغها ضباط التنظيم الأحرار نصب أعين كل أعضائها ، سواءً وهي في مرحلة إعداد وصياغة برامجها عقب تشكيل كلٍ منها أو وهي تمارس مهامها اليومية في ضوء تلك البرامج .
أما الأمر الثاني : فيتمثل في أن خمسة عقود من الزمن تعتبر مدى زمنياً قصيراً نسبياً في حياة الدول وأعمار الشعوب ، خصوصاً حينما تبدأ حياة مواطنيها بالفعل من تحت الصفر في ظل ذلك الوضع الذي كانت عليه الممالك والجمهوريات في كوكب الأرض آنذاك من تقدم وازدهار علمي غير مسبوقين في تاريخ البشرية ، فيما بدا (اليمن) العظيم بمواطنيه صبيحة تفجير الثورة وكأنه قد تم عتق رقابهم وتحريرهم من الأسر بداخل (قمقم) ظلوا مدفونين بداخله في أعماق الأرض لمئات السنوات الماضية ربما تمتد لحقبة انهيار الدولة العباسية ، أضف إلى ذلك أن الجمهورية الوليدة لا أقول المحدودة بل المعدومة الموارد الطبيعية المكتشفة آنذاك مقارنة بجيرانها قد أُبْتُلِيَت منذ نشأتها بخوض حربٍ مقدسة استمرت لمدة خمسة أعوام للقضاء على الأحلام المريضة بعودة النظام الملكي بمساعدة الجيران ، ولتثبيت دعائم نظامها الجمهوري ، وأنه حتى بعد أن استقر الأمر للنظام الجمهوري ، وتم إجبار المستعمر البريطاني البغيض في نفس العام على أن يحمل عصاه ويرحل من أجزاء عزيزة وغالية من تراب هذا الوطن ، فقد كابدت الدولة الأمرَّين جراء استماتة الجيران في الإبقاء عليها فقيرة معدمة ونسف أي بادرة أمل في استخراج أي ثروات طبيعية من باطنها ، وكذا حرص أولئك الجيران - للأسف الشديد - والقوى العظمى على الإبقاء على (اليمن) العظيم مجزأً بنظامين سياسيين متناقضين جذرياً فكرياً وأيديولوجياً ، وجعل كل منهما يميل ويدور في فلك إحدى الدولتين العظميين آنذاك : الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ، والنفخ في كير التجزئة والتشطير وتغذية وتأجيج كل بواعث الشرذمة والانفصال لضمان استمرار إراقة الدماء لسنوات وسنوات ، يتم خلالها زرع الفتن والثارات والضغائن والاحتقانات بين أبناء الوطن الواحد بسبب التناحر والاقتتال فيما بينهما كي يسيطر أحدهما على الآخر ، وحينما أذن الله لليمانيين أن يسددوا ضربات شديدة الإيلام لأعدائهم المتربصين بهم وبوطنهم باستعادة تحقيق وحدة ترابهم في الثاني والعشرين من مايو المجيد في العام 1990م ، وبدأ اليمانيون يتنفسون الصُعداء وينعمون بفترة استقرار نسبي ، شهدت بواكير البدء باستخراج بعض من ثرواتهم الطبيعية من أعماق أرضهم الطيبة ، إلا أن هذا التطور لم يَرُقْ بالتأكيد لذات الأشقاء والأصدقاء فعمدوا للعب وارتداء نفس أدوارهم الشيطانية القديمة لعلهم يُفلحون في إعادة عقارب الساعة لما قبل ذلك اليوم العظيم ، وظلوا بأقصى درجات العزيمة والإصرار ماضين في بذل أقصى جهودهم ومخططاتهم التآمرية لزعزعة أي حالة نسبية قد تنتج عنه من الاستقرار والأمن والأمان ، وتضافرت كل الكوابح والمعوقات السابق سردها للوصول للأمر الثالث الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تقييم المدى الذي نجح فيه الشعب (حُكاماً ومحكومين) في ظل ثورتهم التي أنتجت نظامهم الجمهوري في بلورة وتجسيد أهدافها الستة العظيمة واقعاً مُعاشاً ملموساً في حياتهم .
أما الأمر الثالث البالغ الأهمية : فمرتبط بقناعتي الشخصية بأنه منذ مطلع شهر فبراير من العام 2011م حتى اليوم أزال المتآمرون المحليون والإقليميون والدوليون على (اليمن) العظيم أقنعتهم وكشروا عن أنيابهم بصورة علنية وواضحة ومكشوفة ودونما تخفٍّ وراء ستار أو حجاب ، فعمدوا إلى إحداث زلزال في الوعي الجمعي للشباب خاصة ، وسعوا بكل ما وهبهم الله من قوة إلى طمس ونسف وإزالة كافة المُنجزات التي تحققت لشعبنا العظيم ولأرضنا الطاهرة في طريق تحقيق وتجسيد تلك الأهداف ولو بنسب متفاوتة على مستوى كل هدفٍ منها ، وذلك بالرغم من فشل وإخفاق كافة حيلهم ومكائدهم الماضية وعدم جدوى وفاعلية كل العراقيل والمثبطات التي أوجدوها من العدم لإجهاض أي تقدم جاد نجو تحقيق تلك الأهداف ، فقد بذل أولئك المتآمرون ومازالوا يبذلون أقصى ما هو متاح لهم من إمكانات لبث روح اليأس والقنوط لدى عامة الشعب وبسطائهم من إمكانية وجدوى السعي المخلص نحو تحقيق أيٍ منها ، وذلك بقيامهم بـ (تصفير) عداد تلك المنجزات بمحوها وتدميرها وتسويتها بالتراب لتصبح أثراً بعد عين ، لعلهم ينجحون في بتركيع اليمانيين ونزع كرامتهم وإذلالهم وكسر شوكتهم وإجبارهم في نهاية الأمر على الموافقة والقبول بالبقاء تابعين لهم مسلوبي الإرادة في استقلال قرارهم وعاجزين عن امتلاكهم نواصيهم بأيديهم ، وبما يحول دون تفكيرهم مجدداً بالسعي نحو إنجاز كل ما يحقق لهم ولوطنهم مصالحهم الخاصة ، وذلك من خلال كل ما أذاقوه وجرعوه لليمانيين من المرارات والمحن والابتلاءات والمنغصات الجسام التي من المؤكد واليقيني أن أي شعب آخر من شعوب الكون غير الشعب اليمني العظيم لو ذاق وتجرع بعضاً منها لعجز تماماً عن تحملها أو الصبر عليها ، وكي لا تُدرك الأجيال القادمة من جانب آخر حقيقة ما كان قد تحقق بالفعل وعلى أرض الواقع من تلك الأهداف السبتمبرية العظيمة والغايات النبيلة بعد مضي ما يقرب من تسعة وأربعين عاماً مضت من عمرها حتى ذلك العام المشئوم ، وذلك وصولاً للتشكيك بجدوى وأهمية تلك الثورة من الأساس ، وتصوير الأمر على أن ما جرى خلال العقود الخمسة الماضية من عمرها لم يكن أكثر من عبث وإهدار ونهب لمواردها ، وتنازع دموي عفن على من يصل من مراكز القوى فيها لكرسي الحكم خلالها ، لتحقيق الهدف النهائي الخبيث بطمسها واجتثاثها من جذورها المتغلغلة والراسخة في الوجدان الشعبي ، لعلهم ينجحون في التسويق لإمكانية عودة النظام الملكي مجدداً للأرض اليمنية الطاهرة .
وبناء على كل ما تقدم فإننا حتى العام 2011م كنا قد قطعنا شوطاً كبيراً قي تحقيق الهدف الأول المتمثل بالتحرر من الاستبداد من خلال القضاء على النظام الإمامي الملكي المستبد في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م واستمرار مطاردة مخلفاته المنتنة إلى أن تحقق للثوار النصر المؤزر والنجاح الساحق في وأد ومواراة حلم العودة إليه الثرى عقب فك وإنهاء حصار السبعين يوماً مطلع العام 1968م ، وتتم مشيئة الله وفي مفارقة قدرية عجيبة بأن يحدث ذلك بالتزامن مع إرغام الثوار الأحرار للمستعمر البريطاني على مغادرة الأرض اليمنية في الثلاثين من نوفمبر في العام 1967م تتويجاً لنضالهم المستمر منذ اندلاع شرارة الثورة في وجوه أولئك المستعمرين في الرابع عشر من أكتوبر 1963م من جبال ردفان الأبية ، وظل الأحرار ومازالوا يجتهدون في إزالة مخلفات ذلك المستعمر وإقامة حكم جمهوري عادل ، كما تفانوا في قطع شوط معقول في تذويب وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات التي كانت سائدة في المجتمع إبان النظام الملكي والتي كانت تقسم الشعب إلى طبقات وفئات اجتماعية ما أنزل الله بها من سلطان في كتابه الكريم ولا في سُنة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان يتمايز الناس في ما بينهم ما بين سادة وفُقَهاء وقبائل وما كان يُعرف بالناقصين من البشر الذين كان يُطلق عليهم مصطلح (المزاينة) لكونهم يمتهنون مهناً وضيعة من وجهة نظر بقية طبقات المجتمع المذكورة.
وفي ما يتعلق بالهدف الثاني الذي ينص على بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها ، فما نشهده منذ بدء العدوان الهمجي البربري الغاشم قبل أكثر من 900 يوم مضت ، وتحديداً منذ مساء يوم الخميس السادس والعشرين من مارس 2015م يثبت للعالمين أجمع وليس فقط لليمانيين ، ما تحقق في هذا الجانب المهم للغاية ، فبالرغم من استهداف الأعداء لضرب المؤسستين العسكرية والأمنية وإخضاعهما لعملية إعادة الهيكلة المزعومة ، إلا أن ذلك الجيش الأسطوري وهو الذي وصمه العملاء والخونة بالجيش العائلي في ثنايا أحداث ربيعهم (العبري) الملعون ، لو لم يكُن أبطاله الميامين مؤهلين بما فيه الكفاية لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها لما تمكنوا من أن يشكلوا حتى اليوم حائطاً أسطورياً صلباً منيعاً في وجه جحافل الدول الست عشرة المنضوية في التحالف الدولي الشيطاني المعتدي على وطننا العظيم ، ولما تمكن بالتعاون مع أبطال اللجان الشعبية من إحباط كل مطامعهم الخبيثة واجتثاث أحلامهم وأمانيهم المريضة بابتلاع (اليمن) العظيم خلال فترة زمنية قياسية ، وهذا ما لا يختلف عليه ولن يختلف عليه الأعداء قبل الأصدقاء ، وذات الأمر ينطبق على المؤسسة الأمنية التي حافظت ومازالت تحافظ على تماسك الجبهة الداخلية وحفظ الأمن والاستقرار فيها بصورة لافتة مذهلة ، رغم الاختلالات المحدودة جداً التي تحدث من حين لآخر ، إلا أنها لا يمكن القياس عليها مع حجم المخاطر والتحديات الراهنة أثناء العدوان .
أما في ما يتعلق برفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وهو الهدف الثالث ، فهو من الأهداف التي تمت صياغتها ليبقى هدفاً دائماً متجدداً للأبد ، ورغم ذلك يمكننا القول إنه فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي فإن ما سبق سرده في مقدمة المقال يشير إلى وجود (اليمن) العظيم في بيئة اقتصادية عدوانية متحدية ومستفزة ، لأن كل أفراد الأسرة الحاكمة في مملكة الجيران يؤمنون بمعادلة مريضة عجيبة في منتهى الغباء وضعها الأب المؤسس بأن الخير العميم سيكون من نصيبها إن كان وطننا الحبيب شقياً ملوثاً ومنكوباً بالأزمات الاقتصادية ، وأن تحقق الرخاء الاقتصادي في أرض الإيمان والحكمة الذي يمتلك مخزوناً بشرياً هائلاً ، إلى جانب مخزون خرافي من الثروات الطبيعية التي اختصهم الله بها في باطن الأرض وفوقها ، سيكون بالضرورة وبالاً عليهم وسيكون له آثار وخيمة عليهم ، لذلك اجتهدوا في الإبقاء على (اليمن) العظيم فقيراً معدماً ، ليظل مرتهناً لهم سياسياً واقتصادياً ، وليهاجر إليه وإلى كل أصقاع الأرض نسبة كبيرة من مواطنيه طلباً للرزق والعيش الكريم غير المتاح في وطنهم الأم ، كما تعمدوا الإبقاء على جيرانهم ذوي الإرث الحضاري الضارب بجذوره في أعماق التاريخ في حالة من التوترات والقلاقل الأمنية ودورات العُنف والاحتراب والاقتتال للتربع على كراسي الحُكم والسُلطة ، لأنهم يدركون تماماً وفق رؤيتهم الخبيثة القاصرة أن وجود حالة من الأمن والاستقرار لسنوات ، تعني بالضرورة اتجاه اليمانيين نحو استكشاف واستغلال واستثمار مواردهم الذاتية المهولة ، وبالتالي الفكاك من إسارهم وقبضتهم الحديدية والتحرر من الطوق الذي فرضوه على أعناقنا عُنوة ، وبالرغم من كل ما تقدم إلا أن (اليمن) العظيم شهد في عهد الرئيس الصالح ونظراً للفترة الطويلة التي استمر فيها متربعاً على كرسي السُلطة قدراً نسبياً من التحرر الاقتصادي الذي ابتعد بالدولة ونأى بها عن الهيمنة الاقتصادية ، ونجح في توفير قدر كبير من مناخات الأمن والأمان والاستقرار للمستثمرين سمح باستخراج النفط واستكشاف العديد من المعادن ، بالإضافة للدعم الاستثنائي الموجه من الدولة تجاه القطاع الزراعي ، ورغم كل تلك العوامل الصادمة التي عانى منها الوطن إلا أنه شهد حراكاً إيجابياً على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي ظل يتنامى عاماً بعد عام مع البعثات العلمية المتاحة للطلاب لكل دول العالم ، ومن الغبن الشديد والجور وعدم الإنصاف المقارنة بين ما كان عليه الحال قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في العام 1962م وما بعدها في الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية ، والقول بأن الثورة لم يكن لها أي تأثير إيجابي مطلقاً في تلك المجالات التي شهدت طفرات ووثبات عملاقة فيها لا يُنكرها إلا جاهل أو حاقد .
وفي ما يتعلق بالعمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة ، وكذلك احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والتمسك بمبدأ الحياد الايجابي وعدم الانحياز والعمل على إقرار السلام العالمي وتدعيم مبدأ التعايش السلمي بين الأمم ، وهما الهدفان الخامس والسادس من الأهداف العظيمة للثورة السبتمبرية الخالدة ، فواقع الحال يشهد بأن الأنظمة والحكومات السياسية المتعاقبة قبل الوحدة المباركة وبعدها قد عملت على تجسيدهما واقعاً ملموساً بالقدر الذي كان متاحاً لكلٍ منها ، وفي ظل الظروف السلبية المحيطة الكابحة البالغة التعقيد المُشار إليها أعلاه ، خصوصاً عند نجاح اليمانيين في اقتناص الفرصة التاريخية السانحة عند توافر الظروف البيئية الملائمة لإعادة التئام والتحام الجسد اليماني في ظل دولة واحدة في الثاني والعشرين من مايو المجيد في العام 1990م ، وعودة (اليمن) العظيم للجسد العربي مارداً عملاقاً أعاد إحياء الآمال التي يتطلع إليها الملايين من الأشقاء العرب والمسلمين والتي كادت أن تخبو وتندثر وتغدو في حُكم المعجزات مستحيلة التحقيق ، ليكون أنموذجاً يُحتذى به ومنطلقاً للعمل الجاد والدؤوب لتحقيق واحدة من أغلى وأعز الأمنيات والطموحات التي يحلم بها ويتطلع وتهفو إليها قلوب وعقول وأفئدة جميع من يربطهم اللسان والدين الواحد والتاريخ المشترك في إيجاد وحدة عربية إسلامية شاملة ، لكن هيهات لهذا الحُلم أن يتجسد واقعاً ملموساً في ظل وجود حالة الإصرار على تعزيز وتغذية وتنمية بواعث الانقسام والتشظي والتبايُن والاختلاف والتنافُر في الأنظمة السياسية الحاكمة لدول العالمين العربي والإسلامي التي مازالت قوى الاستكبار والهيمنة العالمية الكُبرى في العالم تتعمد إيجادها في ما بيننا للأسف الشديد .
|