د/عبدالرحمن أحمد ناجي - في الرابع عشر من أكتوبر 1963م، وبعد ما يزيد عن عام من تحرر شمال الوطن من الحكم الإمامي الكهنوتي واستبداله بالنظام الجمهوري عقب قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة، انطلقت شرارات الثورة على المستعمر البريطاني البغيض من جبال ردفان الشامخة الشماء، ولعل السؤال الذي لم يطرحه أحد من قبل رغم وجود دلالات مهمة وعميقة عند الإجابة عليه، لماذا لم تكن الثورة على المستعمر البريطاني سابقة على الثورة ضد الحكم الإمامي؟!، وبصيغة أخرى ما الذي دفع بالأحرار في شمال (اليمن) وجنوبه بالبدء بتحرير الشمال ثم الانتقال لتحرير الجنوب؟!، وحينما نطرح هذا السؤال يتبادر للذهن فوراً سؤال آخر، هل كان ذلك ترتيباً إلهياً ومحض صدفة قدرية غير مخطط لها بشرياً؟!، أم أن الأحرار قد استلهموا إرادتهم وعزيمتهم من جذوة الثورة التي اشتعلت وتأججت شمال وطنهم؟!.
جال هذا السؤال بتوابعه وصيغه المتعددة تلك بخاطري، لأننا نعلم من كتب التاريخ أن مدينة (عدن) رغم خضوعها للاستعمار الأجنبي إلا أنها كانت بمثابة منارة معرفية وثقافية، كما أنها مثلت القِبْلَة والحضن الدافئ لكل الأحرار الفارين من ظلم وطغيان وجبروت الأئمة القادمين من الشمال ؟!، وكانت تتمتع بما كانت محرومة منه كل المحافظات الخاضعة لحكم الأئمة من كل مظاهر الحضارة والتقدم السائدة والتي يتمتع بها البشر في كل أرجاء كوكب الأرض في ذلك العصر، إذ لم يكن هناك من مجال للمقارنة بينها وبين حال العاصمة (صنعاء) الخاضعة لسلطة أصرت على إبقائها خارج ذلك الزمن، فكان واقع حالها وكأنها مازالت تعيش في القرون الغابرة السحيقة، وهذا ما كان يجعل مدينة (عدن) مرشحة أكثر من غيرها لأن تكون منطلقاً للثورة ضد المستعمر البريطاني، وبعد أن تنال وتستعيد حريتها وسيادتها الوطنية، ينطلق الأحرار منها لتحرير الشمال.
كان ذلك ترتيباً منطقياً لما كان ينبغي أن يكون عليه واقع الحال لو أننا نعيش في أي بلد آخر غير (اليمن) العظيم، هذا البلد الأصيل الذي هو ودونما منازع قد اختصه الله بأن يكون منبع العروبة وموطن الإنسان الأول منذ بدء الخليقة ومنه انتشر أولاد آدم وأحفاده وذريته في كل أصقاع الأرض جيلاً بعد جيل ليعمروها أحياناً، ولينشروا مع انتشارهم وحيثما حلوا الفساد والنزاع وسفك الدماء أحياناً أخرى، ولهذا يظل للأصل خصوصية وتَفَرُّد وتمايز لا يُقاس عليه إذا ما قورن بباقي الفروع مهما تطاولت تلك الفروع أو تعاظم شأنها في الوجود، ولهذا شاء الله أن تكون الثورة السبتمبرية منطلقاً للثورة الأكتوبرية، وعلى كل من يدعي اليوم زوراً وبهتاناً وإفكاً مبيناً أن الثورة السبتمبرية كانت حكراً على أبناء الشمال ولم يكن لأبناء الجنوب أي نصيب يُذكر فيها، وأن ذلك كان واقع حال الثورة الأكتوبرية التي يدعي هؤلاء أنه لم يكن فيها لأبناء الشمال لا ناقة ولا جمل، أن يُراجع نفسه وأن يدرك جيداً أنه بهذا الطرح المخجل والمزيف لوقائع التاريخ على الأرض إنما يُقزم ويُحَقِّر من ذاته، حينما يُصر على أن يلوي عُنق الحقيقة بذلك الطرح الفج والغبي.
فالثورتان متمازجتان متناغمتان تمازجاً وتناغماً فريداً وبصورة عجيبة، ولم يكن فيهما أي فرز لهوية الثائر وانتمائه المناطقي بالمطلق، ولم يدُر بخلد أحد من أولئك الثائرين الأحرار أن تفضي ثورتهم لقيام دولتين على أنقاض من ثاروا عليهما في الشطرين، إذ لم يحملوا بنادقهم لمطاردة فلول الأئمة حتى تم لهم تطهير الأرض اليمنية منهم، وتحويل حياة المستعمرين إلى قطعة من جهنم يتمنون فيها الموت في كل لحظة فلا يجدونه، من أجل أن يأتي من بعدهم من يتجرأ على القيام بتجزئة (اليمن) العظيم لجمهوريتين متباينتين تماماً في الفكر والأيديولوجيا، بدليل أن أول رئيس للدولة في جنوب الوطن كان أول وزير لشئون تحرير الجنوب المحتل في أول حكومة تشكلت في ظل النظام الجمهوري في الشمال، وكان الأحرار في (اليمن) العظيم يستهدفون أن يشهدوا بأعينهم أو يشهد أبناؤهم من بعدهم- إن صعدت أرواحهم لبارئهم جراء ثورتهم- التئام الجسد اليمني في دولة واحدة تمتد من صعدة حتى المهرة، ما تجرأ أحد من أولئك الأحرار أن ينحدر ويهوي فينطق لسانه بكلمات قبيحة على شاكلة : أنت جنوبي موكل إليك ومنوط بك طرد المستعمر البريطاني من أرضك ولا شأن لك بتحرير الشمال من الحكم الكهنوتي البغيض، أو أنت شمالي وحري بك أن تقاتل هناك لتحرير أهلك من حكم الإمام وليس من حقك المساهمة بطرد المستعمر من الجنوب.
لم يخطر قط ببال ثوار سبتمبر وأكتوبر أنه سيأتي من أولادهم أو أحفادهم يوماً ما من يصف فريقاً منهم بأنهم محتلون ويتحتم عليهم الرحيل ومغادرة الموضع الذي يتواجدون فيه، وحتى في أسوأ كوابيسهم لم يكونوا ليحلموا بأن يأذن الله لليمانيين بالتئام جسدهم مجدداً، ويأتي من بعد ذلك من يطالب بتمزيق الجسد الواحد استعلاءً واستكباراً على بقية مواطنيه بادعاء أنه أكثر تحضراً وثقافةً ورُقياً وسمواً، ولو قُدِّر لأحد أولئك الأحرار أن يستيقظ من مرقده لصرخ في وجه كل من يتشدق بذلك النفس البغيض وهل من دلائل وعلامات الرُقي والتحضُّر والعلو والسمو في الثقافة والعلم والمعرفة أن تسمح للسانك بأن يتفوه بما تقول أو أن تسمح لهذا الطرح الغبي المتخلف بأن يتردد ولو سراً في ثنايا قلبك وعقلك دون أن يخرج من بين شفتيك؟!، ولو أن أحد أولئك الأحرار استشرف المستقبل ورأى بعينيه من يريد أن يحتفل بذكرى ثورة أكتوبر المجيدة وهو يرفع علماً شطرياً، في ذات الوقت الذي ترزح فيه عدن الحبيبة ومعظم محافظات الجنوب مجدداً تحت الاحتلال وتئن تحت أقدام و(بيادات) المحتلين، لَبصق في وجوه أولئك ولكان لسان حاله : شاهت وجوهكم وأبدانكم وبُترت أياديكم الآثمة، ماذا أنتم فاعلون بوطنكم أيها الحمقى المشوهون؟!، وبأي ذكرى أو عيد تحتفلون؟!، هل حقاً تحتفون بذكرى ثورتنا وأنتم دُعاة تجزئة وانقسام وتشرذم؟!، هل حقاً تنوون الاحتفال بثورتنا وأنتم تحتضنون محتلين يزعمون أنهم إنما جاءوا لتحريركم من بعض أبناء جلدتكم ليحلوا هم محلهم ويرفعوا راياتهم فوق سماواتكم، ويتحكموا بأرزاقكم ورقابكم وثرواتكم؟!، هل حقاً تمتلكون عقولاً داخل عظام جماجمكم أو قلوباً في ثنايا صدوركم؟!.
وهيهات هيهات أن يتوقف أولئك عن غيّهم، وأنَّى لهم أن ينظروا لواقع حالهم ببصائرهم قبل أبصارهم، وهم ماضون في سفاهتهم وسفالتهم متلذذين في تقطيع أوصال بلدهم بأيديهم، وكيف لهم أن يُقِرُّوا ويعترفوا بأنهم بغبائهم المنقطع النظير هم من أوصلوا وطنهم إلى ما وصل إليه، وأنه لولاهم لما كان لذلك المستعمر الجديد أن يفكر مجرد التفكير أن يدنس بقدمه وسائر بدنه أرضهم وأن ينتهك شرفهم وعرضهم، وأن الأحرار في هذا الوطن العظيم لاشك سينتفضون مجدداً، ليبددوا أحلامهم المريضة وليطهروا الأرض اليمنية من رجس أولئك المحتلين، وفاءً للعهد والوعد الذي قطعناه للتراب الطاهر لهذا الوطن العظيم بأنه لن ترى الدُنيا على أرضي وصياً، وأنه وفقاً لكل ما تقدم سيأتي اليوم الذي أسال الله أن يُعجل به فيكون قريباً فنُرْغِم أولئك المحتلين على الرحيل والمغادرة إما بداخل توابيتهم محمولين على أعناق من بقي منهم أحياء أو سائرين على أقدامهم يجرون أذيال الهزيمة والخزي والعار، يومئذٍ ستسود فيه وجوهكم وتتوارون خجلاً وأسفاً وأنتم تعضون أصابعكم ندماً على ما اقترفتموه بحق وطنكم الذي حق له إن شاء أن يتبرأ منكم، وبحق مواطنيكم الذين ارتضيتم لهم الذِلة والمهانة بعد أن أعزهم الله وأكرمهم بعودة وطنهم واحداً موحداً للأبد.
|