عبدالله محمد الإرياني - والديّ العزيزين حفظكما الله وامد بأعماركما، اسمحا لي ان اعاتبكما عتاباً لامعصية فيه، اتذكر عندما كنا اطفالاً حرصتما الحرص الشديد على ان تزرعا فينا جملةً من المفاهيم ، وتغرسا في افئدتنا جملة من الثوابت باعتبارها قواعد اساسية للعيش الكريم في ظل وطن كريم وشعب اكرم يؤمن بنبل المبادئ، ونظام عادل وُجِد ليؤمّن الجميع افراداً وشعباً ووطناً ككل.
اسقيتمانا مبادئ العزة والكرامة، والتزام العمل بإخلاص، والاتسام بسمات النزاهة والشرف، والتحلي بروح البذل والعطاء، واحترام حرية الآخرين وعدم المساس بها أو مصادرة حقوقهم، والتمسك بقدسية الوطن ونظامهِ، والالتزام بلوائحه وقوانينه الوطنية، واسقيتمانا ضرورة السعي الدؤوب الى التحصيل العلمي كسلاح امين لنيل المطالب وتحقيق الطموحات، وتهذيب الانفس، ولحماية الحقوق، كونه لغة الفضيلة وحلقة الوصل بمختلف الفئات الرسمية والشعبية، وعنواناً بارزاً للهوية الشخصية والحضارة الوطنية، وركناً اساسياً لموضوعية المواقف وصيانة الحريات، فبهِ يعلو الشأن بين المجتمع، وبه ايضاً يعلو شأن الامة والوطن بين الامم .
الله...ياوالديّ ما اجمل هذه المفاهيم وتلك المبادئ، ويالروعة وبساطة ذلك الزمن الذي عشتما فيه وسُقيتما منه انبل المفاهيم واعظم المبادئ..
أعي تماماً أن ما عشتماه جعلكما حريصين على زراعة مفاهيم ومبادئ ذلك الزمن فينا، وكان لكما ذلك.
لكني اعتب عليكما اليوم قصور رؤيتكما للمستقبل، فنظرتكما له كانت ايجابية شمولية لم تأخذ بالحسبان احتماليات التغير الذي قد تتغير معه تلك المفاهيم نتيجة لتغير معتقدات الناس ومدى تمسكها بضوابط الاخلاق، وتغير قواعد اللعبة واطرافها وثوابتهم بتغير اهدافهم وطموحاتهم، فتتغير بذلك منظومة العلاقات الانسانية والمجتمعية الرسمية منها والشعبية، واخيراً والأهم تغيرات مفاهيم الانظمة الوطنية بتغير مصالح القائمين عليها، خدمة لمصالحهم وتحقيقاً لاهدافهم وغاياتهم وتجسيداً لطموحاتهم، فينعكس ذلك على الفرد والمجتمع والوطن.
والديّ العزيزين:
أعتب عليكما لماذا اوهمتمانا بأن الحقوق والحرية لا تؤخذ الا بالقيم النبيلة واحترام القانون؟..
لماذا لم تخبرانا انه سيأتي زمن لا وجود فيه للعلم والقيم والمبادئ، وانما ستكون فيه القوة الهمجية والبلطجة المتجردة من القيم والمبادئ الشرعية والوضعية، وغوغائية الممارسات والسلوك واللغة، والتجرد من الانسانية والآدمية هي اللغة الوحيدة السائدة لتحقيق الطموحات وحماية الحقوق، ستكون لغة اساسية للعزة والكرامة، ووسيلة لصيانة الحريات؟..
لماذا لم تعلمانا ان نتواضع اذا تواضع الجميع، وان نبطش عندما يبطش الجميع؟...
لماذا لم توعيانا ان القوانين وجدت لخدمتنا ولكن بالامكان أن تصبح ضدنا إذا كنا ضعفاء؟...
لماذا لم تعلمانا أن نسلك ونعيش بنفس آلية النظام السائد فنكون بلاطجة إذا كان النظام كذلك ونكون نبلاء إذا كان كذلك ايضاً.
والديّ اعلم انكما عشتما في زمن سادته القيم والمبادئ الانسانية التشريعية منها والقانونية، لكنكما لم تعلما أو تتنبئا انه سيأتي يوم نعيش في كنف أنظمة تشريعية وقانونية بعيدة كل البعد عن مفاهيمكما التي حرصتما على زراعتها والتزامنا بها، وان تلك المفاهيم والقيم ستقف عاجزة امام مانتعرض ويتعرض له الوطن، فاليوم تستباح الاوطان وتقطع اوصالها، وتغتصب الحقوق وتزهق ارواح طالبيها ويُتهمون بالعمالة والخيانة العظمى، وتصادر الحريات لمصلحة هيمنة وسلطات المتنفذين ، حتى مفاهيمكما السامية تقف اليوم عاجزة امام ابسط مقومات الحياة والتي اصبحت اسيرة لقرارات ثلة المتنفذين ويسمح بالبعض الزهيد منها، وبالقدر الذي يروق للمتنفذين وسياستهم تحقيقاً لاهدافهم وبما يعزز من مكانتهم وتمركزهم، ويوسع نطاق هيمنة المستعبد وخنوع العبد...فلا حقوق اليوم ياوالديّ مع مفاهيمكما النبيلة ولا عزة وكرامة وهوية وحضارة وحرية مع علمكما الشريف.. فالبلطجة لغة العالم السائدة وهي اليوم اساس النظام وروح القانون.
فاعذراني لتشويهي ذكرياتكما المثالية، ولتمزيقي صورة طموحاتكما بمستقبل مشرق تمنيتماه لأولادكما ومجتمعكما ووطنكما الذي اغتصبهُ الكل من اجل الكل.
اخيراً : اسمحا لي أن انحني لكما شكراً وعرفاناً بسيرتكما القيمية، والوطنية، والنبيلة، وأن احمد الله أنكما من ذلك الزمن وانكما والديّ من سُقيت منهما تلك المبادئ النبيلة لاسواها، وعهداً علي أن أتمسك واحتفظ بها وانقلها للاجيال عبر الاجيال، عسى أن يجود الدهر يوماً بما اردتماهُ مشرقاً للجميع، وزرعتما لاجلهِ مبادئكما ومفاهيمكما فينا خدمةً لهُ.
|