إبراهيم ناصر الجرفي - تتغير نظرة الأشخاص لماهية الحياة ، بحسب المبادئ والقيم والأسس الفكرية ، التي ترسخت في عقولهم ، ونشأت معهم منذ الصغر ، وبحسب الثقافة الأسرية والمجتمعية السائدة ، وبحسب البيئة المحيطة ، فعادةً ما تطغى المادية والمصلحية والنفعية لدى الأشخاص الذين نشأوا في مجتمعات مادية ، وعادةً ما تطغى المثالية لدى الأشخاص الذين نشأوا في مجتمعات تسود فيها القيم والمبادئ والفضيلة ، ونظراً لتنامي النزعة المادية لدى جميع المجتمعات البشرية مؤخراً ، نتيجة سيطرة الثقافة الرأسمالية على مسيرة الحضارة الإنسانية ، فإن النزعة والثقافة المادية اصبحت هي المسيطرة على غالبية الأفراد ، في مختلف المجتمعات البشرية ، في ظل انهيار وتراجع كبير للمبادئ والقيم ..
ومن هذا المنطلق المادي والمصلحي ، أصبحت تدار تفاعلات الحياة اليومية ، ومن هذا المفهوم الضيق لمعنى الحياة ، تحول الأفراد إلى أدوات لتجميع الأموال والثروات ، وجُل تفكيرهم يدور حول كيفية الحصول على المزيد من الأموال والمصالح ، سواء بطرق شرعية أو غير شرعية ، بل إأن الطرق غير الشرعية باتت هي سيدة الموقف ، ونادراً ما تجد أفراداً ملتزمين بالطرق الشرعية في هذا الخصوص ، بل ان التنافس اليوم حول كسب المزيد من الأموال والمصالح ، بالطرق غير الشرعية في مجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص ، بات نوعاً من أنواع الذكاء والمباهاة والفخر ، وبالمفهوم البلدي (حمرنة العين) ، فكلما حصل هذا الشخص أو ذاك على المزيد من الأموال والمصالح والمناصب ، بالطرق غير المشروعة ، كلما نال درجة مرتفعة في مقياس حمرنة العين المادي المصلحي ، والعكس صحيح ..
وهذا الأمر طبيعي جداً ، في ظل مجتمعات أصبحت السيطرة فيها ، للثقافة والنزعة المادية والمصلحية ، في ظل تلاشي الثقافة الروحية والمعنوية ، قد يقول قائل بأن في كلامي نوعاً من التحامل ، لكن ما يحدث على أرض الواقع العربي عموماً واليمني خصوصاً ، من صراعات وحروب ، ما هو إلا نتاج سيطرة النزعة المادية على ثقافة هذه المجتمعات ، فالصراعات القائمة اليوم ، وتغيير الولاءات ، هي من أجل المال والسلطة والمناصب ، فكم رأينا من أشخاص وهم يبدلون ولاءاتهم وأقنعتهم ، من أجل الحصول على المال ، او من اجل الحفاظ على المناصب التي تُدر عليهم الأموال ، وكم رأينا العديد من صور الخيانات والتآمرات في سبيل ذلك ، وذلك لأن هؤلاء الأشخاص قد جعلوا من الحصول على الأموال والمناصب والثروات هدفهم الرئيسي في هذه الحياة ، وفي سبيل ذلك هم على استعداد للتضحية بأغلى ما يملكون ، فالمادة أصبحت بالنسبة لهم كل شيء في هذه الحياة ، ولديهم قناعات بأن الحياة بدون المادة والأموال والمصالح والمناصب لا تساوي شيئاً ، ولا قيمة لها ، وهكذا تكون آثار النزعة المادية عندما تستحوذ على تفكير الإنسان ..
وهذا يوصلنا إلى حقيقة مؤسفة جداً ، مفادها أن المادة والأموال والمصالح والمناصب ، قد تحولت من أدوات ووسائل ، إلى دين ومنهج حياة ، ونحن بهذا الطرح لا ننكر أهمية المادة ، فالمادة والأموال أداة ووسيلة وزينة في هذه الحياة ، قال تعالى ((المال والبنون زينة الحياة الدنيا)) ، لكن في ظل ثقافة متوازنة تجمع بين الروح والمادة ، فلا تطغى الروح على المادة ، كما هو حال الرهبنة والتصوف والتطرف والتشدد ، وصولاً إلى تعذيب الجسد وحرمانه من نعم الله الحلال في هذه الحياة ، ولا تطغى المادة على الروح كما هو حال النزعة المادية الرأسمالية ، وصولاً إلى إهمال الجوانب الروحية ، على حساب الإفراط في تلبية رغبات وشهوات الجسد ..
وفي كل الأحوال يظل السمو والرفعة للمبادئ والقيم ، كون الحفاظ عليها والتمسك بها ، يحتاج إلى قوة ، وعزيمة ، وإصرار ، وإيمان ، وإرادة ، بينما ليس من الصعوبة بمكان تغيير المبادئ والمواقف والولاءات والقيم والثوابت ، في سبيل الحصول على الأموال والمناصب والمصالح ، فأصحاب المبادئ هم من يمتلكون القدرة على تحمل الصعاب وضغوطات الحياة ، على أن يتنازلوا عن مبادئهم وثوابتهم ، وعلى أن يبدلوا مواقفهم ويغيروا ولاءاتهم بين فينةٍ وأخرى ، وهذا ما يمنح المبادئ السمو والرفعة ، وهو نفسه ما يجعل المصالح والمادة تتقزم أمامها ..
وبالتالي.. فإن قوة وعظمة النفوس البشرية تقاس بمدى قدرتها على التمسك بالمبادئ والقيم والثوابت ، ومدى رفضها للمغريات والشهوات والنزوات ، وضعف النفوس البشرية وانحطاطها يقاس بمدى تخليها عن المبادئ والقيم والثوابت ، ومدى خضوعها للمغريات والشهوات والنزوات ، وبذلك فإن السمو هو سمو المبادئ ، فالحفاظ عليها والتمسك بها يحتاج لنفس قوية عظيمة صادقة وفية ، والعكس صحيح ، فلا يظن من يحصد الأموال ويجني الثروات على حساب تخليه عن مبادئه وقيمه وثوابته ، أن ذلك دليل ذكاء أو قوة ، بل إنه دليل غباء وضعف ، أمام نفسه أولاً ، وأمام الناس ثانياً ، ومظاهر السلطة ، ومكاسب الأموال والمصالح ، لن ينقذه من تأنيب الضمير ، ولن ينجيه من لوم الناس له ، ولن ينقذه من نظرتهم الدونية له.
|