الأربعاء, 23-يناير-2008
الميثاق نت -    د‮. ‬طارق‮ ‬المنصوب‮ -
❊ غريبة وشاذة هي الشعارات المناطقية والانفصالية التي بات البعض يطلقونها دونما خوفٍ أو حرج، ويرفعونها بمناسبة وبدونها، والأغرب منها تعمد بعض القوى »السياسوية« اليمنية انتهاج أساليب تأجيج وتثوير الشارع اليمني، وزيادة مشاعر الكراهية والحقد بين أبناء المجتمع اليمني ضد كل ما هو وحدوي ووطني، والتي توجتها أحزاب اللقاء المشترك بالأحداث المأساوية في الذكرى السنوية لمجزرة الرفاق.. فما كان يفترض فيه أن يكون دعوة »للتصالح والتسامح« تحولت إلى مناسبة جديدة لنكء الجراح وإضافة جراحاتٍ جديدة إلى ذاكرة الشعب اليمني بكافة شرائحه الاجتماعية وانتماءاته المناطقية والسياسية، إذ أن الضحايا من الجانبين هم في جميع الأحوال من أبناء الأسرة اليمنية الواحدة، وينتمون لنفس الوطن اليمني الواحد، وهي الحقيقة الوحيدة الثابتة تاريخياً التي لا يستطيع الجميع نكرانها، مهما تباينت مواقفهم أو مشاربهم‮ ‬الحزبية‮ ‬والسياسية‮ ‬أو‮ ‬اختلفت‮ ‬وتباعدت‮ ‬مناطق‮ ‬سُكناهم‮ ‬أو‮ ‬تعددت‮ ‬لهجاتهم‮ ‬ولكناتهم‮. ‬
ومع كامل الأسف أن البعض من إخواننا في ما يمكن أن نسميه أحزاب الهدم المشترك لكل ما هو وحدوي ومشترك، إذ يقومون بالهدم المنظم والتخريب المنهجي لكل مقدرات الشعب اليمني الواحد، يمارسونه في إطار ما يعتقدونه نوعاً من السياسة، وهي مثال واقعي للجهل بأبسط أبجديات السياسة، ودليل على الفهم الخاطئ للمقصود بالسياسة، التي يعرّفها قاموس »لسان العرب« والعديد من المعاجم اللغوية العربية بأنها: من كلمة ساس، أي قام بأمور الناس بما يصلحها.. حيث إن السِّياسة تعني: القيامُ على الشيء بما يُصْلِحه.
صحيح أن السياسة هي »فن الممكن«، لكنها أيضاً النقيض الفعلي للصراع واللجوء إلى وسائل العنف بكافة صوره وأشكاله بما في ذلك القتل والحرب، إذ في اللحظة التي تفشل فيها السياسة والسياسيون تترك الباب مفتوحاً على كل البدائل الأخرى، أليست الحرب- كما يقال- امتداداً للسياسة ولكن بوسائل أخرى؟ »لكنها وسائل عنيفة ومدمرة في غالب الأحيان«. ويذهب البعض إلى:»إن العنف لا يمثل إلا مسلكاً من المسالك (المتعددة والمختلفة) التي قد تلجأ إليها السلطة في حالاتٍ محدودة لحفظ النظام والأمن والسكينة العامة، وعندما تقوم بذلك تحاول تبريره أو شرعنته«. أما الأفعال التي يصح أن نطلق عليها أنها أفعال سياسية بحق فهي لا تحتاج إلى تبرير، إذ العنف وحده هو الذي يوجب التبرير في أغلب الأحيان.. ولذا فإن السياسة لا يمكن أن تتعايش مع العنف إذ هي »النقيض الفعلي له«..
والملاحظ اليوم تجدد اللجوء إلى العنف في مجتمعاتنا العربية بوجهٍ عام، وفي مجتمعنا اليمني بوجهٍ أخص، في ظل استسهال البعض لإطلاق الأحكام الجاهزة والمعدة سلفاً، وفي ظل وضعيةٍ من عدم الرضا مطلقاً بما تحقق لمجتمعاتنا العربية عموماً واليمني بوجهٍ خاص من هامشٍ ديمقراطي أتاح للعديد من باحثينا وكُتابنا متنفساً للتعبير بحرية عن آرائهم، ومجالاً لانتقاد التصرفات التي تقوم بها السلطة السياسية في مجتمعاتنا، كما أتاح للعديد منهم فرصة للحديث في مجالات ظلت تعتبر من »التابوهات أو المحرمات سياسياً وليس دينياً«؛ حيث لجأ البعض من‮ ‬أولئك‮ ‬إلى‮ ‬التطاول‮ - ‬في‮ ‬بعض‮ ‬الأحيان‮- ‬على‮ ‬كل‮ ‬ثوابت‮ ‬ومكونات‮ ‬النظام‮ ‬السياسي‮ ‬اليمني،‮ ‬والضيق‮ ‬بكل‮ ‬ما‮ ‬تحقق‮ ‬من‮ ‬مكاسب‮ ‬في‮ ‬ظل‮ ‬دولة‮ ‬الوحدة‮ ‬اليمنية‮. ‬
وكان الأولى بهؤلاء أن يقروا ويعترفوا بواقع ما وصلت إليه حريات التعبير والاختلاف وتنامي دور الحلول الوسطى والحوار في مجتمعنا اليمني، وأكثرهم يمتهنون الكتابة الصحفية وأقلامهم معروفة ومحل تقدير من السلطة قبل المجتمع.. ولم يحدث أن مُنعوا من التعبير عن آرائهم بحرية ..، وبأن التجربة الديمقراطية اليمنية هي بحالٍ أفضل مما كانت عليه قبل سنواتٍ عدة وإن لم تكن في المستوى الذي يرضيهم أو يرضي طموحاتهم وتطلعاتهم ..، وعليهم الانطلاق من النقد الديمقراطي البناء للتجربة السياسية اليمنية وتقييمها بسلبياتها وإيجابياتها في علاقتها‮ ‬بالواقع‮ ‬وبالبيئة‮ ‬الاجتماعية‮ ‬اليمنية،‮ ‬والأهم‮ ‬من‮ ‬ذلك‮ ‬ممارسة‮ ‬السياسة‮ ‬بالسياسة‮ ‬بدلاً‮ ‬عن‮ ‬اللجوء‮ ‬إلى‮ ‬العنف‮ ‬وإثارة‮ ‬الشارع‮..‬
في الختام نتفق مع حنا أراندت، التي أشارت عند تحليلها للنظم الكليانية أو الشمولية إلى: »أن العنف يتعارض جوهرياً مع السياسة بل يقصيها ويغيبها تماماً، إذ العنف يرتبط بأفعالٍ غير سياسيةٍ في عمقها مثل: التحايل، الضبط أو التطويع الاجتماعي، التخدير الأيديولوجي«.. وهي تذهب في كتابها (في العنف) إلى القول: »إن السلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم أحدهما حكماً مطلقاً يكون الآخر غائباً«.. حقاً لقد عرفت الإنسانية أوضاعاً سليمة نسبياً في عصور قديمة وفي عصر الثورات العالمية، وحينذاك برزت السياسة في معناها الحقيقي (أي السياسة بمعنى التحاور والتواصل والتفاوض والتوافق والتداول).. بعيداً عن لغة العنف وتثوير الشارع، واستغلال بعض القضايا المرتبطة بالحقوق والمطالب المشروعة في تحقيق غايات وأهداف غير معلنة. .فهل يؤمن الفرقاء السياسيون في مجتمعنا اليمني بهذه المبادئ والقيم للممارسة السياسية الحقيقية؟ وهل يؤمنون بأن السياسة في بلدنا يجب أن تقوم على مبادئ التوافق السياسي وتفعيل لغة الحوار والتواصل مع الآخر، وتضييق مساحة الاختلاف بدلاً من توسيع الهوة بين أبناء المجتمع الواحد؟ أم أن على قلوبٍ أقفالها..؟
‮❊ ‬استاذ‮ ‬العلوم‮ ‬السياسية‮ ‬المساعد‮- ‬جامعة‮ ‬إب

تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 04:18 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-5652.htm