الميثاق نت -

الإثنين, 09-سبتمبر-2019
مطهر‮ ‬تقي -
عشرون عاماً مضت علي وفاة شاعر اليمن ومتنبي عصره الأستاذ عبدالله البردوني وبهذه المناسبة احتفلت أوساط عدة عرفاناً وتقديرا لذلك الرجل الاستثنائي الذي أعطى وطنه عصارة شعوره وقريحته دون تذلل لقصر الإمام أو القصر الجمهوري لأربعة رؤساء ودار الرئاسة للرئيس الخامس (والحال كذلك لرؤساء الشطر الجنوبي من الوطن سابقا) وما يؤلم في تلك الاحتفاليات والمقابلات الإعلامية أن البعض حاول اي يجعل من البردوني وشعره معولاً يضرب به عصر الزعيم أو العصر الفلاني لتصفيه حسابات سياسية ضيقة كما يشير البعض منهم الى أن البردوني كان ينتمي الي الحزب الفلاني أو التيار الفلاني وهذا غير صحيح فالبردوني كان يمنيا حراً واكبر من كل الاحزاب وكأن اولئك لم يقرأوا كتاب البردوني اليمن الجمهوري الذي لخص رأيه السياسي في الاحداث السياسية في اليمن ابتداء من بداية عشرينيات القرن الماضي وحتى عام 1983 وقال رأيه في الإمام يحيى وابنه احمد ثم البدر فرئيس الجمهورية الاولى المشير عبدالله السلال ورئيس الجمهورية الثانية القاضي عبدالرحمن الارياني ورؤساء الجمهورية الثالثة ابراهيم الحمدي واحمد الغشمي وعلي عبدالله صالح (هكذا ذكر البردوني الرؤساء وازمانهم) بكل وضوح وصدق الزاهد في المناصب والجاه والمال... فالأستاذ البردوني رحمه الله عليه كان يكتفي من متاع الدنيا بما يستر جسده ويسد رمقه (حتى بالكدمة اليابسة) فالمال كان آخر همومه بل لم يكن من همومه اصلا واذكر حديث الأستاذ يحيى الدرة رحمة الله عليه الذي تم الاتفاق مع من حضر من أقرباء الأستاذ عبدالله الى منزله الذين أتوا من الحدا لتقديم العزاء في اليوم الرابع او الخامس للوفاة حين اتصلت زوجته بي وكان معها شقيقها الدكتور ابراهيم الجرافي لتخبرني بأن البيت مزدحم بمن جاء من الحدا فذهبت الى المنزل ومعي الأستاذ يحيى الدرة واتفقت مع من حضر من الحدا أن يتم تفويض الأستاذ يحيى الدرة في أمر القرابة وما يترتب على ذلك وحسب الشرع وبعد أيام أخبرني الأستاذ يحيى الدرة وهو يقوم بحصر تركة الأستاذ عبدالله بانه وجد بين كتب مكتبة الأستاذ عبدالله شيكا بعشرة آلاف دولار من الرئيس السابق علي عبدالله صالح لم يصرف حتى وفاة صاحب الاستحقاق بالرغم من أن تاريخ الشيك قد مر عليه شهور.. وما يؤكد زهد البردوني في مال الدنيا هو مصير جائزة العويس المالية فقد وزعها البردوني على أصدقائه المحتاجين ومن كان يقرأ ويكتب له ويداديه في مشاويره..
كانت علاقتي به حميمة ومتميزة واول اتصال مني بالبردوني الاذاعي والإعلامي كان في عام 1968 وانا طالب في المرحلة الإعدادية حين بعثت عبر البريد الى اذاعة صنعاء برنامج مجله الفكر والادب (بدأ هذا البرنامج عام 1964 وتوقف عام وفاته) رسالة أسأل فيها الأستاذ عبدالله عن لغة سيدنا آدم عليه السلام والمفاجأة لي حين حدثني البعض في مسجد الفليحي انهم سمعوا اسمي في الإذاعة ولما استمعت الى البرنامج في وقت إعادة بثه علي رد الأستاذ عبدالله على سؤالي زاد تعلقي بالبرنامج ومعده وبالإذاعة والاعلام عموماً وكأن اتصالي ذلك بالإذاعة هو ما‮ ‬ربطني‮ ‬بعد‮ ‬ذلك‮ ‬بحب‮ ‬الإعلام‮ ‬والالتحاق‮ ‬بسلكه‮.‬
وحين التحقت بالإذاعة (عام 1978 بعد تخرجي من كلية الاعلام جامعة القاهرة) كانت علاقتي بالإعلامي الاديب الأستاذ عبدالله احد موظفي الإذاعة مستمرة ومتميزة وكان لي الشرف حين كنت وكيلا لوزارة الإعلام والثقافة أن ترأست اسابيع ثقافية يمنية (بتكليف من الوزير الصديق الأستاذ حسن اللوزي الذي كان لا يحب السفر على الطائرة) أقيمت في خمسه بلدان عربية بين الأعوام 1984 وحتى 1989 قدم اليمن خلالها شخصيته الثقافية والسياسية والاجتماعية من ندوات شعرية ومحاضرات ثقافية وغناء ورقص شعبي ومعارض فنية وحلي وازياء شعبية لإخوانه العرب وكان الأستاذ القدير عبدالله البردوني الرائد الاول في تلك الأسابيع الثقافية التي كنت فيها احرص على قضاء أكثر الأوقات معه للاستفادة من بحر ثقافته وعمق شخصيته المبصرة واكتشفت في تلك الأسابيع بالعيان والمشاهدة أن شعبية ومحبة وتقدير الشعب العربي للبردوني الشاعر والأديب‮ ‬والمحاضر‮ ‬اليمني‮ ‬اعظم‮ ‬مما‮ ‬يتصوره‮ ‬اي‮ ‬يمني‮.. ‬وصدق‮ ‬من‮ ‬قال‮: ‬الانبياء‮ ‬في‮ ‬بلدانهم‮ ‬غرباء‮.‬
توثقت علاقتي بالأستاذ عبدالله مع مرور السنوات بحكم العلاقة الشخصية المتميزة وعلاقة العمل ومتطلباته وكانت زياراتي إليه في الغالب بصحبه الأستاذ القدير المرحوم يحي الدرة لا تنقطع خصوصا عند وصوله من أي سفر أو حين يصاب بأي وعكة صحية واتذكر آخر زيارة الي مستشفى الثورة قبل يومين من وفاته وضحكته المتميزة لا تفارقه حتى وهو على فراش المرض كما لا أنسى اتصال الأستاذ يحيى الدرة بعد ظهر يوم الاثنين 30 أغسطس 1999م ليبلغني نبأ وفاة الأستاذ عبدالله وكان الاتفاق بيني وبينه بعد صدمة الخبر أن يقوم هو بالاشراف علي تغسيل وتكفين الجثمان في المستشفى بدلا من نقله الى منزله فذلك أقل مشقة على زوجته وانا اقوم بالتواصل مع السفياني وذهبت الى مقبرة خزيمة قبل زوال شمس ذلك اليوم بالاتفاق مع السفياني أن يكون القبر بجوار قبر الشيخ المقرئ والمنشد الكبير محمد حسين عامر (الحدائي) ( توفي في1 فبراير 1999م) رحمة الله عليه الذي كان لي معه مودة وصداقة لا تختلف عن المودة والصداقة التي ربطتني مع الأستاذ عبدالله البردوني (الحدائي) وكان الاتفاق مع زوجته أن يتم التشييع من الجامع الكبير الساعة التاسعة صباحا إلا أن نقل الجثمان تأخر فاتصلت بالأستاذ يحيى الدرة عن سبب التأخير فقال ان المغسل مازال يتم عمله (فقد كان الأستاذ عبدالله يتناول ولعة البردقان) وفي حدود الساعة العاشرة تمت الصلاة على الجثمان وحمله الى مقبرة خزيمة وسط حشد كبير من المواطنين والوزراء والمسئولين وعلى رأسهم الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني رئيس مجلس الشورى السابق والأستاذ حسين المسوري امين العاصمة الأسبق الذي فتح قاعة الأمانة بعد عصر ذلك اليوم لاستقبال المجابرة وقام بتوفير كل ما يلزم لذلك اليوم الذي حضره أعداد غفيرة من قيادات الدولة والمسؤولين والأدباء والشعراء والمثقفين عموما وقيادات الاحزاب السياسية ورعى الله الصديق العميد علي الشاطر احد الاصدقاء الاوفياء للأستاذ عبدالله البردوني الذي قام بصياغة خبر نعي الوفاة عبر وسائل الاعلام المختلفة ومن كنت بجواره يوم العزاء في امانة العاصمة حين دخل احد المسؤولين المقربين الذي لا يحب احداً حتى نفسه فعلق الأخ علي حين رآه بقوله الله يستر وبالفعل تم نقل مقر العزاء لليوم الثاني والثالث الى نقابة الصحفيين ولا سامح الله ذلك المسئول.. ورعى الله الصديق الوفي يحيى الحباري الذي ظلم كل المسؤولين الذين حضروا دفن وعزاء الأستاذ عبدالله حين قال في كلمته يوم الاحتفالي بمرور عشرين عاماً على الوفاة التي اقامتها دائر التوجيه المعنوي للقوات المسلحة بصفته الداعم المالي لإقامة الاحتفالية حين قال بأنه لم يحضر جنازة الأستاذ البردوني احد من المسؤولين حتى وكيل وزارة وهذا غير صحيح وانا أصدق الصديق يحيى في كثير من رواياته إلا أن هذه الرواية قد‮ ‬خانته‮ ‬الذاكرة‮. ‬
رحمة الله علي الأستاذ عبدالله البردوني ذلك الإنسان الذي سجل اسمه ضمن قائمة العظماء من أبناء اليمن ومن عشق وطنه اليمن في كل قصيدة من قصائده وعظم وطنه في كل محاضرة وندوة قالها ورفع اسم اليمن عاليا في كل أرجاء العالم العربي والمحافل الدولية ومن كان له موقف ضد‮ ‬الظلم‮ ‬والفساد‮ ‬بكل‮ ‬أشكاله‮ ‬وشخوصه‮ ‬ومن‮ ‬كان‮ ‬أحد‮ ‬القلائل‮ ‬الذين‮ ‬كرهوا‮ ‬التسكع‮ ‬علي‮ ‬ابواب‮ ‬السلطة‮.. ‬
سيظل‮ ‬البردوني‮ ‬في‮ ‬ذاكره‮ ‬كل‮ ‬أبناء‮ ‬الشعب‮ ‬اليمني‮ ‬هو‮ ‬الجمهوري‮ ‬ومن‮ ‬عشق‮ ‬الديمقراطية‮ ‬ومن‮ ‬طالب‮ ‬بالدولة‮ ‬المدنية‮ ‬الحديثة‮.. ‬
رحمه‮ ‬الله‮ ‬عليك‮ ‬يا‮ ‬استاذ‮ ‬عبدالله‮..‬
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 11:19 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-56620.htm