هشام علي السنباني - تكتسب الأحداث التاريخية أهميتها من حجم تأثيرها وضخامة تحولاتها ونتائجها، وتتعاظم أهميتها عندما يشترك الشعب بمختلف فئاته وقطاعاته في تحقيقها ورسم ملامحها..
وقد كانت الثورة اليمنية (26 سبتمبر و14 أكتوبر) ولاتزال أهم أحداث اليمن خلال القرن العشرين، ونقطة حاسمة في تاريخها الحديث، جسدت الإرادة الشعبية العارمة، حين تكاملت أدوار الشعب اليمني بمختلف فئاته وقطاعاته سياسيين ومشائخ ومثقفين وعلماء وعسكريين في تفجيرها وتوجيه مسارها..
ويلاحظ القارئ المُهتم بالخلفية التاريخية للثورة اليمنية، وطبيعة التحديات التي وقفت أمامها - ولا تزال - عدداً من القضايا بالغة الأهمية والتي لم تأخذ حقها في الأعمال البحثية أو عبر الوسائل الإعلامية.
فلم تكن ثورة الـ 26 من سبتمبر حدثاً عابراً أو تغييراً عشوائياً لظروف مرحلة أو وليد الصدفة، إنما ثمرة لسلسلة من العمل التنويري والكفاح الثوري، وحلقات متصلة من النضال الوطني لعدة عقود تعددت خلالها المحاولات والكبوات، ودفع الأحرار ثمنها الكثير من التضحيات.. حتى اكتملت مقومات نجاح الثورة، وتطورت أفكار وطموحات التغيير المنشود من الإصلاح المؤسسي لمنظومة الحكم الرجعي إلى التغيير الجذري من خلال نظام جمهوري ونهج ديمقراطي.. والتي للأسف الشديد ظل يختزلها المنهج التعليمي ووسائل الإعلام الرسمي في عدد من الشخصيات الوطنية وبضع دبابات تدك دار البشائر عشية الثورة، ويكفي أن يسأل كلٌّ منا أبناءه وكل من حوله عن الثورة ليُدرك حجم الفجوة..
وعند تناول مقدمات الثورة، والظروف التي هيأت لها وجعلت منها أمراً حتمياً، فينبغي التدقيق أكثر في مختلف أحداث النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، والتي تبلور خلالها الخلاف بين أفراد الأسرة الحميدية وأصبح أكثر حدة، وبرز التصدع والصراع على السلطة، فكان له أبعاد وتبعات داخلية وخارجية، أحسن تنظيم الضباط الأحرار والقوى الوطنية استغلالها، كما يجب عدم اغفال مؤشرات جمود النظام الرجعي وعدم تمكنه من التكيف مع واقع التغيير ومتطلبات الإصلاح والتطوير، وتنامي الوعي والرفض للتفاوت الطبقي.
كما أن الإقرار بالعزلة التي كانت تعيشها اليمن قبل الثورة لا يعفي من دراسة المتغيرات الإقليمية والدولية وأبعادها الجيوسياسية والاقتصادية والتي لا يمكن تجاهلها لحدة تداعياتها وتأثيرها سلباً وإيجاباً على مسار الثورة، وفي مقدمتها تسارع المد القومي وحركات التحرر الوطني، وتصدع العلاقات العربية العربية عقب أزمة السويس وانهيار حلف بغداد، وكذا تقلص النفوذ البريطاني في العالم العربي عقب الهجوم الثلاثي على مصر، وصراع المعسكرين الغربي والشرقي، ودخول الشرق الأوسط والجزيرة العربية تحديداً في نطاق الحرب الباردة بعد سقوط كل مظاهر عدم الانحياز وتكاتف القوى الرجعية في مواجهة قوى الثورة.
وفي المقابل، جاءت ثورة الـ 14 من أكتوبر تأكيداً لواحدية الثورة ووحدة الجسد اليمني، إذ تداعى الآلاف من أبناء الجنوب للدفاع عن ثورة 26 سبتمبر في صنعاء، والتي بدورها أسهمت كثيراً في انطلاق الثورة التحررية المسلحة من ردفان، تعزيزاً للنشاط المُكثف للأحزاب والنقابات العمالية في مقاومة الاستعمار البريطاني، وتسريع الخطى نحو استقلال الجنوب، فبعد أن كانت عدن منطلقاً لأحرار ثورة سبتمبر، أصبحت صنعاء وتعز ملاذاً للثوار من أبناء الجنوب، ومقراً للقيادة وتوجيه العمليات، وحين تدافع أبناء الجنوب لكسر حصار السبعين، كان أبناء الشمال ضمن تشكيلات العمل الفدائي في عدن..
وعند تناولنا لعدد من أوراق الثورة المنسية، يكفي أن نتأمل اليوم في أهداف الثورة اليمنية الستة، لنُدرك عمقها الفكري وأبعادها التنموية والاستراتيجية، حيث كانت ولاتزال موجهات عامة وغايات رئيسية لبناء دولة عصرية.
فبرغم ما تزخر به المكتبة اليمنية والعربية من كتب وثائقية وأبحاث تحليلية حول مسيرة وأحداث ورموز الثورة اليمنية، إلا أنها برأيي تظل قاصرة تجاه ما تستحقه الثورة من دراسة وتحليل، لإنصاف الكثير من رجالات الثورة المجهولين، وكشف الغموض الذي يكتنف بعض أحداثها.. فلا تزال الثورة الفرنسية التي وقعت أواخر القرن الثامن عشر محل بحث واهتمام العديد من المفكرين والمؤرخين في أوروبا.
وخلاصة القول، فإن الثورة التي هز قيامها صمت الجزيرة العربية، تفرض علينا استخلاص قيمها وترسيخ غاياتها، ودراسة أحداثها بأسلوب تحليلي ومنهج علمي، لتقييم وتعزيز إنجازاتها واستلهام الدروس والعبر من اخفاقاتها، فواقعنا يؤكد أن لا ثمرة لغض الطرف عن أخطائنا إلا تكرارها، وأن التآمر على بلادنا لا يستهدف النُخب الحاكمة وإنما قيم الثورة وأهدافها..
|