د. محمد مرشد الكميم - حينما تعصف بشعوب العالم الأزمات والصراعات والحروب، نجدها تُعلِّق آمالاً عريضة على نخبها وتمنحهم ثقة كبيرة وصلاحيات واسعة تمكن هذه النخب من تجريب محاولات مختلفة للخروج بهم إلى بر الأمان، ولكنني أجد شعوب العالم العربي تتوجس خيفة من نخبها؛ فلا تمنحها الثقة ولا تمكنها من الصلاحيات اللازمة لإخراجها من أزماتها، وهذا الأمر حملني على التساؤل عن السر الواقف وراء أزمة انعدام الثقة والتمكين من الصلاحيات بين الشعوب والنخب في عالمنا العربي.
ولكي أكون أكثر إنصافاً، فإنني سأحصر دائرة تساؤلي عن هذه الأزمة في بلدي (اليمن)، وفي نخبة المثقفين التي ستتضمن عندي، تجاوزاً، كلاً من: العلماء والدعاة والمصلحين والمبدعين والنقاد والصحفيين والإعلاميين والمفكرين والفلاسفة، هذا إن كان لهم وجود فعلي عندنا.
قد يكون من المنطقي أن أسأل، أولاً، عن السر الذي يجعل الناس يعولون على نخبة المثقفين بكل أطيافهم، وعمَّا يجعل المثقفين يحملون، على عواتقهم، قضايا الناس الذين ينتمون إليهم، ويقبلون أن يكونوا الضمائر الحية التي تدافع، ببسالة، عن حقوقهم وحرياتهم وآمالهم وطموحاتهم وتطلعاتهم.
لا أجد تفسيراً مقنعاً وبسيطاً، في الآن نفسه، أكثر من القول بأن العامة تدرك، بطرائق واعية أو لا واعية وحدسية، الفارق بين الجهل والعلم، وأن العلم، وليس الجهل، هو القادر على فهم عالمهم وتشخيص مشاكله وحل أزماته. وبما أن المثقفين هم حملة العلم، فهم الأجدر بثقتهم والأقدر على استثمار الصلاحيات التي يمنحونها لهم في ما يخدمهم ويدير عالمهم الذي لا بد أن سيتعرض لأزمات ومشاكل مختلفة كماً ونوعاً، كما أن إدراك المثقفين للفوارق بينهم وبين الجهلة من جهة، وبينهم وبين المتعلمين من جهة أخرى، يجعلهم يشعرون بمسؤولية مضاعفة تجاه من ينتمون إليهم. وهذا الشعور بالمسؤولية، هو الذي نمَّى لديهم مفهوماً ثقافياً وحساً مشتركاً فيما بينهم اصطلحوا على تسميته بـ "الضمير الحي" الذي يحمله، فعلاً لا قولاً، من تمت تسميته بـ "المثقف العضوي".
إن المشكلة الحقيقية التي تعترضنا، اليوم، في اليمن، هي اختلاط مفهوم المثقف بالمتعلم الذي لا يُشترط أن يرتقي إلى مقام الثقافة، وهذا الاختلاط أفقد الناس بوصلة التمييز بين المثقف الحق والمثقف الزائف؛ فكم من متعلم لا يفترق عن الجاهل في شيء يذكر سوى أنه يعرف القراءة والكتابة، وكم من أميٍّ لا يعرف الكتابة والقراءة، ولكنه يرتقي إلى مقام المثقف ويصل إلى تخوم الثقافة.
قد يكون اختلاط مفهوم المثقف بالمتعلم وكثرة المشتغلين بالشأن الثقافي ممن يصدق عليهم وصف متعلمين لا مثقفين، حتى وإن كانوا من حملة الشهادات الكبيرة (العليا)، مُفسِّرَين للشعور العام بأن الساحة الثقافية اليمنية تكاد تخلو من الثقافة والمثقفين، وأنها تغص بمن يمكن أن نطلق عليهم (أشباه مثقفين) أو (أنصاف مثقفين)؛ لأن هؤلاء حولوا الثقافة إلى حرفة للتكسب فشوهوها في أعين الناس، واتخذوا لقب المثقف صفة لهم؛ لكي يكون جواز مرورهم إلى عوالم تحقيق المصلحة الفردية والشهرة الزائفة والمكانة الاجتماعية، غير مبالين بضرورة الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع ولا بالضمير الحي الذي سيضبط ما تنتجه أقوالهم وأقلامهم ولا بالإنجاز العملي، لا الكتابي، الذي سيفرض عليهم أن يكونوا مثقفين عضويين وفاعلين حقيقيين في المجتمع.
إن غياب شروط الثقافة عن أشباه المثقفين اليمنيين أو أنصافهم، هي التي مكنت للطامحين في السلطة السياسية من استغلال هذا الوضع المائع لمفهوم الثقافة والمثقفين، وسهلت لهم إيهام العامة بخيانة النخب الثقافية لهم؛ لذا وجدناهم يسارعون نحو توجيه كلابهم، بطرق لا تخلو من دهاء وخبث وحقد، إلى النباح الصاخب وإلى إطلاق ألسنتها الطويلة على جموع المثقفين في كل مناسبة ومحفل؛ لكي تخيفهم وتجلدهم بسياط التهم المؤلمة والموجعة والمؤدية، في معظم الأحيان، إلى المعتقلات أو إلى الفرار أو إلى الموت. ولعل أقل هذه التهم إيلاماً وإيجاعاً ما أصبح مشاعاً في أوساط الناس حينما تسمعهم يرددون، كالببغاوات، بلهجتهم العامية: "ما ضرونا إلا المثقفين والمتعلمين"، وتعميم كهذا، يكشف عن فداحة الظلم الذي يتعرض له المثقف الحق، ولكنه، بالمقابل، يعد علامة دالة على الدرجة التي وصلت إليها أزمة الثقة بين المثقف وعامة الناس، وعلى مستوى نجاح السياسيين الجدد في تشويه صورة المثقفين في وعي السواد الأعظم من العامة.
لن نكون مجحفين إذا ما قلنا: إن هؤلاء الأشباه والأنصاف، لم تسمح لهم المعرفة التي كدسوها في أذهانهم بأن يكونوا ذوي حساسية عالية تجاه القيم الإنسانية الرفيعة التي تحقق للإنسان إنسانيته؛ ولهذا فشلوا في استشعار هذه القيم وإشعار غيرهم بها، وفشلوا في عيشها وجعل غيرهم يعيشونها أو يعيشون من أجلها؛ فلا غرابة، إذن، إن وجدنا أغلب من يدعون الانتماء إلى طبقة المثقفين، هم أوائل من يطعنون الضمير الحي ويبيعونه لمن يدفع أكثر أو لمن يكون في يديه تحقيق مصالحهم الفردية أو مكاناتهم الاجتماعية أو شهرتهم الإعلامية وإن لم يكونوا مستحقين لها.
ما تقدم، يفسر لنا، أيضاً، تساؤلاتنا عن سر تحولات هؤلاء الأشباه والأنصاف وسهولة انتقالهم من حضن سياسي كان دافئاً إلى حضن سياسي آخر أصبح أكثر دفئاً، ويا لكارثة الشعوب التي يصبح أول بائعيها من يفترض به أن يدافع عنها وعن قضاياها وأحلامها وطموحاتها وتطلعاتها، ويا لها من كارثة أعظم أن تجد مثل هؤلاء الأدعياء، يبررون، وبلا أدنى خجل، بيعهم لألسنتهم وأقلامهم ومواقفهم وضمائرهم، ويهونون من تخليهم عن واجباتهم تجاه شعوبهم، وأن يصبح كل همهم منحصراً في دفع الكلام على تحولاتهم وانتقالاتهم بحجج واهية لا تصمد كثيراً أمام القيم الإنسانية السامية التي يفترض أن يكونوا حماتها إن وجدت، والمستميتين على خلقها أو استنباتها إن لم تكن موجودة.
لا قيمة للثقافة إن لم تجعل حساسية المثقف عالية الاستشعار بكل قيمة من القيم الإنسانية الرفيعة؛ فالحرية لا يمكن للجاهل أن يستشعر معناها كما يجب أن يستشعره المثقف، والسبب يكمن في أن الحرية انتقلت من مجال الطبيعة والغريزة إلى مجال الثقافة التي لن يفهمها ويمفهما ويعيها ويحسها ويعيشها أحد كما سيفعل المثقف الحق؛ لأنه القابض الأول لوجودها، ولكن الجاهل الذي لا يملك جهازاً يستطيع به إدراك معاني هذه القيمة وغيرها وفهمها ومفهمتها والإحساس بها والعيش فيها، لن يرفض انتهاك السلط المختلفة لمنظومة القيم هذه، بل إنه سيقبل العيش في وضعيات ثقافية لقيم تختارها له هذه السلط المنتهِكة، وسيكيف نفسه عليها؛ لأنه لا يعي مدى أهمية القيم السامية في بلورة معنى الإنسانية في حياته.
إن السلط التي لا تقوم لها قائمة إلا بانتهاك القيم التي تحقق للإنسان إنسانيته، تعي كل الوعي خطورة تنوير المجتمع الذي تحكمه؛ لذا تجدها تحارب، باستبسال، في سبيل إبقاء الجهل مخيماً عليه، بل إنها تعمد إلى تجهيل التعليم إن كان التعليم ثقافة سائدة فيه؛ لأن الاستنارة الحقيقية للمجتمع الذي تحكمه تؤذن بسرعة زوالها، وأما بقاء أفراده على جهلهم، فضامن حقيقي لاستمرار هذه السلط أطول فترة ممكنة في سدة الحكم والتحكم فيه.
ولعلنا لن نكون مبالغين إذا ما قلنا: إن أبرز علامات جهل المجتمع أو تجهيله، قدرة السلط التي تحكمنا اليوم على شراء ذمم المثقفين بأطيافهم المختلفة واستمالتهم إليها بيسر وسهولة أو بقوى إغوائية خفية أو إغرائية صريحة أو إكراهية عنيفة لا يمكنها أن تؤثر في ذوي الضمائر الحية من المثقفين العضويين؛ لأن المعرفة الحقة كفيلة بفضحها، والثقافة الحقة وغير المزيفة كفيلة بحماية مواقف المثقفين والتزاماتهم تجاه مجتمعاتهم.
لقد عاش مثقفون قبل المتنبي وبعده أزمة الثقة هذه، إلا أن المتنبي برع في تصوير حقيقتها المرة وتضخيم معاناته تجاهها، ملخصاً تجربة عيشه لها في بيت شعري حمَّله، كما أظن، ما لا يحد من التهكم والسخرية والسخط على مجتمعه الذي ما زال مجتمعنا، وعلى سلطته الحاكمة التي ما تزال تحكمنا، وعلى كل قارئ يحمل على الظاهر معنى قوله:
ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ
|