محمد اللوزي - تكالبت الظروف البالغة الصعوبة على المثقف اللامتشكل أو اللامدجن، الرافض للسقوط والبقاء في الآسن والذي يريده السلطوي مثقفا تبريريا وشاهد زور على مرحلة من أسوأ المراحل في التاريخ اليمني المعاصر، فلم يبلغ المثقف من الإذلال والامتهان ومحاولة تعطيل قدراته الذهنية كما هو اليوم من جميع الفرقاء فهو مطالب مقابل قوت يومه أن يكون بوقا، وشاهد زور لتقديم القرابين من البشر الطيبين كضحايا لصراع طال مداه في سياق لاقيمي تشكل من أيديولوجيا الموت والإقصاء والأحقية في امتلاك الآخر وجعله خانعا قابلا للتكون في المحدود اللامعقلن، والمستلب في وجوده وتواجده كحالة اغتراب حقيقي للذات عن واقعها وقد آلت إلى الفوضى والدمار المشرعن له، والموعود بالعوض الاخروي.. في هذا المنحى المثقف يعيش صراعا مريرا بين الصمود والنفور من هذا الفج الذي يصنعه الساسة، أو التنازل عن القيمة الأخلاقية للفكري والرضوخ للاستسلام في زحمة الادعياء الثورجيين، الذين يريدون صناعة تأريخ خاص بهم يمنحهم استحقاق السيطرة والإقصاء،. ولعل المثقف هو أول الضحايا في هذا المشهد الدرامي المرعب.. .والواقع أن الثقافة بندرتها واتساع جغرافيا الجهل قد عجزت عن المقاومة وإيجاد حلول حقيقية للقضايا الوطنية ليبرز الإدعاء عنوان مرحلة في التاريخ اليمني المعاصر واحتكار الحقيقة وجعلها بين هلالين تخص مجموعة دون أخرى .هذا خلق الكثير من المعقد الشائك وأوجد شروخات وطنية صعب التئامها، كما أوجد هوة سحيقة تجسيرها ثقافيا يبدو أنه من المهام الصعبة للغاية.وقد آل المثقف إلى حالة شبه مدمرة لم تعد تجدي معها الشعاراتية المستهلكة، ولا التنظير في ظل غياب الفعل الثقافي المؤسسي المستكنه للواقع والقارئ أبعاده، وتداعيات اليومي التي تجر إلى مزيد من التشرد والضياع لوطن بأسره، الأمر الذي سيجد المتسلطون أنفسهم في مأزق حقيقي تحاسبهم الجماهير، بعد أن عجز ضميرهم عن أن يردعهم بتماديهم في صراع خفاياه شراهة لاشراكة، ومنطوقه غير المسكوت عنه أيديولوجياً.. واللامعقول هو السائد الذي أقصى بلابصيرة المثقف ليصل إلى ذروة الاشتغال على الانتهازي بدغدغة العواطف، وهو ما سيرتد هزيمة على ذات القوى التي اعتمدت إقصاء الفكر المستنير ليحضر بدلاً عنه التبريري المدافع عن خصوماتها واختلاقها الأزمات المتعددة.والحقيقة أن أي قوى تضيق ذرعا بالعقل والمثقف المستنير وتغلب الأدلجة وتجعلها هي المهيمن على قراراتها وترتكز على البعد الديني في خطابها مع الآخر محلياً أو دولياً، إنما تضع جداراً حديدياً في وجه أي تفتح يعمل العقل، ويعمل على الانتصار للقيم الحضارية.. وبكل تأكيد فإن هذه القوى المتطرفة لم تصل إلى هذا المستوى من النزوع إلى العنف وافتقادها للصواب إلا بعد أن قهرت المثقف الواعي، وأقصته عن الاشتغال على المستقبل.
لعل الغياب الكامل لمراكز الأبحاث والدراسات شاهد قوي على ما نذهب إليه.وبكل تأكيد أن أي تغيير نحو الأفضل، لابد أن يكون المثقف الطليعي هو المتصدر لمهام الرقي والتقدم، وتحضرنا هنا الثورة الفرنسية فلقد كان من مداميكها مونتسكيو ورسو والكثير من الفلاسفة والفنانين حتى اضحت ثورة إنسانية ومرجعية فكرية للقوى التحررية، وللنضال من أجل الإعلاء من قيمة العقل وأهمية الحرية للبشر جميعاً، وكل ثورة أرادت أن تتجه نحو المستقبل وتصنع حياة تليق بالإنساني، كان المثقف هو المحتفى به وهو الرائي إلى ماذا بعد بمعزل عن السلطوي الذي يريده تابعاً وخانعاً ومسوغاً للقمع والديكتاتورية.. ضمن هذه الرؤية نجد التحدي الكبير الذي يواجه الوطني هو البعد الثقافي وتحديدا المثقف الذي أراده مهزوما كل الفرقاء في حين أن اقصاءه سيجر إلى دورات عنف رهيبة لن يكون بمعزل عنها المتسلطون وسيكونون في مقدمة من يكتوي بنار هذه الحروب.. والسؤال الملح هل يدرك القمعيون أن القادم لم يعد مسيطَراً عليه؟ وهل يدركون أهمية الوعي للخروج من محنة الدم؟ أم سيظلون في ذات المحرقة والشواء الآدمي حتى يصلوا إلى مالايعقلونه بعد ولات حين مندم.
|