الميثاق نت -

الثلاثاء, 09-يونيو-2020
حسن‮ ‬عبدالوارث -
ثلاثة‮ ‬عقود‮ ‬مرت‮ ‬على‮ ‬ذلك‮ ‬اليوم‮ ‬،‮ ‬وتلك‮ ‬الوقفة‮ ‬المتوهجة‮ ‬تحت‮ ‬حرارة‮ ‬الشمس‮ ‬وجلالة‮ ‬الموقف‮ ‬،‮ ‬ونحن‮ ‬نتطلَّع‮ ‬الى‮ ‬علمٍ‮ ‬جديد‮ ‬معلناً‮ ‬عن‮ ‬دولةٍ‮ ‬جديدة‮ ‬،‮ ‬لطالما‮ ‬تاق‮ ‬اليمنيون‮ ‬لمرآه‮ ‬ومرآها‮ .‬
تهيَّأتُ منذ الصباح الباكر للذهاب الى تلك التلَّة ، حيث تنتصب سارية العَلَم ، بل حيث تنتصب أحلامنا الجديدة وآلامنا القديمة ، في مقابلة تاريخية لم نكن لنتوقع حدوثها على هذا النحو من الاستثنائية ، في صباح ذلك الاثنين 22 مايو 1990م.
كان الصباح نديَّاً برغم حرارة الطقس ورطوبة الجو . قلتُ لزميلي المُصوّر : أيّاك أن تنسى تصويري في لحظة ارتفاع العلم، قال : لا تخشَ ذلك، ثم نسيَ اللحظة في غمرة المشاعر المُتأجّجة والمختلَطة بالضحكات والدموع والتصفيق .
كنا نرنو لحظتها الى الأعلى ، حيث قمة السارية وذروة الحلم .. كنا نرنو لحظتها الى الأعلى ، ثم انتبهتُ بعد مرور بضعة أعوام أننا صرنا نرنو الى الأسفل.. وبعد مرور بضعة أعوام تالية التقيتُ الضابط الشاب الذي رفع العلم لحظتها، التقيته لا يقوى على رفع رأسه ، وقد أطلق‮ ‬لحيته‮ ‬للريح‮ ‬ومصيره‮ ‬للمجهول‮ .‬
ثلاثون عاماً مرت كأنّها البارحة ، بل كأنّها منذ ساعةٍ مضت، غير أن مياهاً وفيرة ودموعاً غزيرة ودماءً كثيرة تدفقت تحت جسور تلك الأعوام الثلاثين ، على نحوٍ لم نكن نتوقّع حدوثه قط في تلك اللحظة التي كنا فيها نرنو الى الأعلى حيث قمة السارية وذروة أحلامنا .
بحثتُ عن الصورة فلم أجدها، بحثت عن الحلم فلم أجده . وبحثت عن قُصاصة ورق كتبتُ عليها في تلك اللحظة آخر تأوُّهات عهد وأول توهُّجات عهدٍ آخر . لكنني وجدتُ كثيراً من الملفات السوداء والرمادية ، تراكمت طوال ثلاثة عقود في واقعٍ مغايرٍ بالمطلق لما كنا نعيشه قبل تلك‮ ‬اللحظة‮ ‬،‮ ‬على‮ ‬صعيد‮ ‬الحلم‮ ‬الذي‮ ‬صار‮ ‬كابوساً‮ ‬والعَلَم‮ ‬الذي‮ ‬استحال‮ ‬الى‮ ‬خرقة‮ !‬
نظرتُ الى الصورة التاريخية التي تداولتها كل الصحف والكتب التي وثَّقت لذلك المشهد التاريخي في ذلك اليوم الاستثنائي . نظرتُ اليها مليَّاً ، وتطلَّعتُ في الوجوه والعيون والأيدي ، فرأيتُ أصحابها - رفاق تلك اللحظة وشركاء ذلك الحدث - قد ذهبوا مذاهبَ شتى لا تلتقي‮ ‬في‮ ‬اسم‮ ‬أو‮ ‬فعل‮ ‬مشترك‮ ‬سوى‮ ‬الخيانة‮ ‬،‮ ‬خيانة‮ ‬تلك‮ ‬اللحظة‮ ‬التاريخية‮ !‬
ثمة القاتل الى جوار القتيل ، والسارق بجانب المسروق ، والهارب واللاجىء والسجان والمسجون والمهرج والبائع والشاري والضائع . واذا بالصورة التي نسيَ زميلي المصور أن يضعني فيها قد صارت وثيقة ادانة للخيانة ، بعد أن كانت وثيقة مجد وخلود وسؤدد وبشارة .
تضاربتْ‮ ‬مشاعري‮ ‬حينها‮ . ‬هل‮ ‬تراني‮ ‬مغتبطاً‮ ‬لأنني‮ ‬لم‮ ‬أكن‮ ‬في‮ ‬قلب‮ ‬الصورة‮ ‬،‮ ‬برغم‮ ‬أنني‮ ‬كنت‮ ‬في‮ ‬قلب‮ ‬المشهد‮ ‬؟‮ .. ‬أم‮ ‬تراني‮ ‬حزيناً‮ ‬لأنني‮ ‬لم‮ ‬أكن‮ ‬شاهداً‮ ‬على‮ ‬وثيقة‮ ‬الخيانة‮ ‬؟
ثلاثون عاماً مرت على الحدث ، الصورة والمشهد . ذلك الصباح الذي لم أستطع النوم في الليلة التي سبقته ، ولا في الليلة التي لحقته . تلك اللحظة التي قلت فيها لزميلي المصور : لا تنسَ تصويري . لكنه نسيَ .
رحمة‮ ‬الله‮ ‬عليك‮ ‬أيُّذاك‮ ‬الزميل‮ ... ‬رحمة‮ ‬الله‮ ‬عليك‮ ‬أيُّتاك‮ ‬اللحظة‮ !‬

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:41 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-58501.htm