حسن عبدالوارث - (1)
كم يخذلني قلمي كثيراً، مؤخراً.. وكم يفتُّ في عضدي، كلما هممت بالكتابة في شأن يتصل بالهمّ العام أو التراجيديا التي تعصف بالبلد والناس.
أجدني كالمحموم أو المسموم من هول ما أراه على شريط الواقع ومشاهده المكتظة بصور الدم والدمار والرماد والدموع.. فأعزف عن الكتابة فوراً.
وفي الوقت نفسه، كلما شرعت في الكتابة بصدد حالة فانتازية أو وجدانية محضة، أو في موضوع متصل بدوائر الأدب وحلقات الفن وأقواس الابداع، رحتُ أنزوي على نفسي أو أنطوي في قوقعتي، كأنَّني أنِزُّ خجلاً وعتاباً تجاه ذاتي التي أراها تستحق العقاب لا العتاب فحسب لهذا الفعل المُخزي.
فلا الكتابة في لوح الألم العميق والكرب العمليق الذي يعصف باليمن واليمنيين تقوى على الاستقامة..
ولا الكتابة في صفحة الذات الشاعرة والوجدان المحلّق في الملكوت اللازوردي تتجرأ على الابتسامة..
وبين هذي وتلك، يظل القلم عاجزاً عن الانتصاب في حقل الفعل الذي خُلق من أجله القلم.. واذا عجز القلم عن الانتصاب، انتصبت في مواجهته أسلحة أوأدوات أخرى، تتمثل هويتها في القتل وتتجلى حقيقتها في الابادة، على العكس من القلم الذي تتخلّق كينونته بصفته محفّزاً للعقل والروح على ابداع كل صفات الحق والخير والجمال في الطبيعة والمجتمع والفكر الانساني.
(2)
أفرزت هذه الحرب وتداعياتها النتنة حالات مرضيَّة في الأوساط الثقافية والصحافية، تتبدّى حيناً كالطفح الجلدي، أو تتعدّاه الى البرص والجرَب.. فيما تتصوّر أحياناً كالسرطان أو الايدز أو الايبولا.. ناهيك عمّا استجد مؤخراً من جائحة كورونا العابرة للقارات والحارات والأقبية!
وقد يمترىء المرء لقمة المرارة في صحن السياسة، أو كرعة العلقم في كأس الاقتصاد.. انما في الفكر ومنتوج القلم واشتغال العقل تغدو هذي المرارة وذاك العلقم أشدّ وطأة من الصفة الأولى والوصف الآخر.. فهي تتعداهما الى تصدُّع فادح في البدن وتهتُّك خطير في الوعي.
لقد ترشَّح زيت أسود كثير على مياه الأحداث وواجهة المشهد، بحيث صار سقط المتاع هو سيد الموقف، وهو ديدن الحروب في كل زمان ومكان. وهذا نوع من التجارة الرائجة في هذي الحروب. ان تجار الحروب لا يخوضون في السلاح والغذاء والوقود وما في حكمها فحسب، انما يتوغلون أيضاً الى ساحة الكلمة ومساحة الفكرة، على نحو أشبه بفعل الجراد في الحقول.
غير أنهم مؤخراً راحوا يتجاوزون النص الأدبي الى النص الديني، وأصبحت الفتوى ليس اجتهاداً عشوائياً فحسب، وانما غدت سلاحاً سياسياً وآيديولوجياً وأمنياً وعسكرياً تفرضه أحداثيات المعركة ومتطلبات الحرب!
(3)
ان هذا زمان، وهذا يمان، أصاب فيه الزكام حناجر البلابل، فعجزت عن الانشاد البديع، حتى ظن الناس أن المرض أصاب الغناء نفسه، لا الحناجر التي تحاول الغناء.
وهذا زمان، وهذا يمان، تبارت فيه مَلَكات وقدرات العالِم محمد عبده والعالِمة فيفي عبده..
وبالطبع عرفنا لمن كانت الغَلَبة.
وهذا زمان، وهذا يمان، طمع فيه الملوك والبرابرة على السواء..
لكن البرابرة أدركوا سريعاً أنهم أمامه يظلون مجرد برابرة..
فيما الملوك لم يدركوا بعد أن أقوى الملوك على سطح الأرض ليسوا في حضرته سوى ملوك شطرنج وكوتشينة!
|