الميثاق نت -

الإثنين, 27-يوليو-2020
طه‮ ‬العامري‮ ‬ -
حين تنهار القيم الدينية والوطنية والروحية والأخلاقية والحضارية والإنسانية في أي مجتمع من المجتمعات تبرز قيمة وحيدة هي «القيمة المادية» التي مع انهيار منظومة القيم النبيلة تبقى هي المتربعة على الوعي الجمعي وتصبح «الذاتية» هي القيمة المحركة للطفرة المادية ويصبح‮ ‬النشاط‮ ‬الاجتماعي‮ ‬بكل‮ ‬أبعاده‮ ‬مرهوناً‮ ‬بقانون‮ ‬المصلحة‮ ‬وتحركه‮ ‬جدلية‮ «‬الربح‮ ‬والخسارة»‮..‬
في مثل هكذا مناخ يصبح الكاتب والناشط يصنف من خلال القضايا التي يتناولها فإذا تناول قضية ماء يصبح السؤال الذي يوجه إليه من قبل أقرانه وزملائه هو «كم استلمت»..؟ وللمعني بالقضية يكون السؤال دوماً هو «كم دفعت»..؟!!
يحدث هذا دون أن يكلف أصحاب هذه الثقافة أنفسهم رؤية الجانب الأخلاقي في هذه القضية أو تلك أو ابعاد القضية اجتماعيا وقانونيا بل يذهب هؤلاء، وتحت يافطة التضامن الإنساني الى تشريع القانون الغاب والفوضى وهذا ليس تضامناً بل تدميراً للسكينة وزراعة كل عوامل ومقومات‮ ‬الصراع‮ ‬الاجتماعي‮ ‬والطبقي‮ ‬واثارة‮ ‬الضغائن‮ ‬وتمكين‮ ‬الباطل‮ ‬من‮ ‬اعتلاء‮ ‬عرش‮ ‬الحق‮ ‬ليصبح‮ ‬هو‮ ‬الحق‮ ‬وهذا‮ ‬هو‮ ‬الأخطر‮ ‬على‮ ‬السلامة‮ ‬المجتمعية‮..‬ِ
هذا السلوك ليس وليد اللحظة أو اليوم بل هو حصيلة سنوات وعقود من سياسة امتهان «المهنة» وامتهان العاملين فيها ؛ وهي سياسة لم تقف في حدود إذلال وامتهان أرباب مهنة الصحافة وإخضاعهم لسلسلة من الإجراءات القهرية والقسرية والتهميش والإذلال ومن ثم تحويلهم إلى أشبه بـ«المتسولين» ولكن فئة «خمسة نجوم»..؟ لم يتوقف الأمر عند هذا بل تم الدفع بطابور من «اللقطاء» والمدعين إلى بلاط صاحبة الجلالة التي فقدت وصفها وتوصيفها وقدسيتها وأصبح بلاطها مجرد ماخور وبقرار رسمي كانت الغاية منه في البداية تطويع أصحاب هذه المهنة بما يخدم النظام السياسي وأركانه ورموزه ثم تطورت الحاجة مع بروز ما كان يعتبر مناخاً ديمقراطياً فتحول الواقع المهني بما يشبه «جراب الحاوي» ثم سادت وتكرست قيم مادية متجاوزة كل القيم النبيلة وهكذا صارت «المادة والمصلحة الذاتية» هما عنوان التوصيف والدينامو المحرك لشريحة واسعة من النشطاء وهو ما انعكس سلبا على الواقع بعلاقاته وأحداثه وتداعياته لتنتفي من ذاكرة الغالبية القيم النبيلة والمبادئ الإنسانية والمشاعر الأخلاقية وأصبح الكاتب المتفاعل مع قضايا العامة عرضة للمساءلة إذا ما اقتنع بعدالة هذه القضية أو تلك حتى لو أن هذا الكاتب عرف حقيقة هذه القضية أو تلك وعدالتها من غير صاحبها وتقصى الحقيقة وحاول لفت انظار الجهات المعنية الى عدالة هذه القضية التي لا يعرف صاحبها أو ضحيتها ولا يمت له بصلة القرابة بل لشعور الكاتب بمظلمة صاحبها فإن هذا الكاتب سرعان ما يجد نفسه عرضة للمساءلة، وسؤال كم «استلمت» يردد على مسامعه من الجميع وخاصة ممن يُحسبون على «المهنة» وهم بتساؤلاتهم جادون وطبيعيون لأنهم يعيشون في هذا الواقع الذي فيه كل شيء بثمن بما في ذلك المواقف التضامنية وبالتالي تندرج تساؤلاتهم في اطار الثقافة السائدة التي كرستها رغبات سلطوية لضرب‮ ‬كل‮ ‬القيم‮ ‬النبيلة‮ ‬في‮ ‬المهنة‮ ‬التي‮ ‬تُعرف‮ ‬«بالسلطة‮ ‬الرابعة»‮ ‬قبل‮ ‬أن‮ ‬تميع‮ ‬وتصبح‮ ‬غير‮ ‬ذات‮ ‬تأثير‮ ‬مثلها‮ ‬مثل‮ ‬بقية‮ ‬السلطات‮ ‬الأخرى‮ ‬في‮ ‬المجتمع‮..‬؟‮!!‬
ومع اعترافي المؤلم بهذه الحقيقة غير أني أدرك جيدا أن هناك كُتّاباً وأقلاماً شريفة لم تلوثها الثقافة «المادية» رغم الظروف القاسية التي يعيشها هؤلاء الكتاب وحملة الأقلام لكنهم مؤمنون بالمثل الحميري القائل «تموت الحرة ولا تأكل بثديها» رغم عدم اعتراف الملوثين بنزاهة‮ ‬مثل‮ ‬هؤلاء‮ ‬لانهم‮ ‬ينظرون‮ ‬للأخرين‮ ‬بمنظارهم‮ ‬وليس‮ ‬بمنظار‮ ‬الآخر‮ ‬الذي‮ ‬مايزال‮ ‬يحمل‮ ‬في‮ ‬وجدانه‮ ‬منظومة‮ ‬من‮ ‬قيم‮ ‬واخلاقيات‮ ‬مقدسة‮ ‬وغير‮ ‬قابلة‮ ‬للمساومة‮ ‬والبيع‮ ‬في‮ ‬سوق‮ ‬النخاسة‮ ‬والابتذال‮..‬؟‮!!‬
ثمة حقيقة تقول إن الكاتب أي كاتب لا يمكنه أن يبدع في تناول أي قضية إن لم يكن مؤمنا بعدالتها وإلى هذه الشريحة أنتمي ولي مواقف سياسية ومهنية معلنة اتخذتها بقناعتي الحرة لم يكلفني أحد بها ولم أقبض ثمنها ولست نادما عليها ورغم سيل التهم التي وجهت «للعبد لله الذي هو أنا» على مدى ثلاثة عقود من داخل الوسط المهني ومن خارجه غير أني لم أشعر يوما بتأنيب الضمير أو الندم على موقف اتخذته أو قضية دافعت عنها وعن صاحبها بغض النظر عن مكانة صاحب القضية الاجتماعية مسئولا في السلطة كان أو في المعارضة مواطنا عاديا أو رجل اعمال، وكثير من القضايا خضت فيها دون حتى أن أعرف أصحابها بل اقتناعا بعدالة القضية..ولم يحدث أن خانتني قناعتي في أي قضية خضت فيها وإن حدث فإني على استعداد للاعتراف علنا عن الخطأ الذي وقعت فيه بكل شفافية ووضوح ودون خجل ودون أن أترك الفرصة للعزة بالإثم أن تأخذنا إلى مسارات التيه والنفاق أياً كانت المغريات والمكاسب المعنوية التي قد تعود عليّ أما المكاسب المادية فلم تكن يوما حاضرة في اهتمامي وإلا لكنت من أثرى الأثرياء في الوسط المهني والثقافي لو عملت وفق قانون وفلسفة أصحاب النزوع المادي وثقافة «كم تدفع ؟ وكم استلمت» ويكفي أنني اتهمت ولسنوات بأني واحد من أكبر «المطبلين لنظام الرئيس صالح _ رحمة الله تغشاه» !! وأوصاف كثيرة تم نعتي بها وربما مايزال البعض ينعتني بها ومع ذلك أقول إن كل حرف خطه قلمي في أي موضوع كان تعبيرا عن قناعتي وهذه القناعات لم تكن يوما خاضعة لثقافة الربح والخسارة أو باحثة عن »مغانم« وهذه الحقيقة يعرفها الكثير من الأصدقاء والزملاء كما يعرفها الكثيرون حتى ممن كانوا يعتبرون أنفسهم «خصوما لمواقفي» ولم يقف الأمر في نطاقي الوطني بل وحتى على النطاق القومي فقد كتبت مجلدات دفاعا عن العراق وسوريا وليبيا وعن القضايا العربية العادلة وفي المقدمة فلسطين بل وذهبت إلى أبعد من هذا فيما يتصل بقضية فلسطين والتحقت بثورتها وحملت البندقية دفاعا عن فلسطين ولبنان والقضايا العربية وقضيت سنوات في صفوف الثورة العربية الفلسطينية ليس حبا بالمغانم بل تجسيدا لقيم تستوطني وتتحكم بقناعتي ولم‮ ‬تفارقني‮ ‬يوما‮ ‬هذه‮ ‬القناعات‮ ‬لأنها‮ ‬تستوطن‮ ‬كل‮ ‬مشاعري‮ ‬وتسيطر‮ ‬على‮ ‬وجداني‮ ‬وتفكيري‮ ‬وبالتالي‮ ‬يصعب‮ ‬أو‮ ‬يستحيل‮ ‬أن‮ ‬أكون‮ ‬من‮ ‬رموز‮ ‬ثقافة‮ ‬«كم‮ ‬تدفع‮ ‬أو‮ ‬كم‮ ‬استلمت»‮..!!‬
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 04:38 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almethaq.net/news/news-58885.htm