د/ رؤوفة حسن -
كل زمان له ناسه وظروفه. وكل مجتمع ينتج ما يعبر عنه ليتركه للأجيال التي تليه.والمجتمعات التي تتوقف عن الإبداع تفقد مصدرها للفخر فتلجأ الى الماضي. والمقولات تسمح بالذهاب الى الماضي لتبرير الغرق فيه فيقول الناس " ليس في الإمكان أبدع مما كان".
وفي الإرث المسموع والمكتوب ما يقوم على عكس ذلك ليمثل زادا للباحثين عن الابداع فيقولون " أجمل الأشياء لم تكتب بعد"، وهم بذلك يحثون أنفسهم على قول ما هو أجمل وأكثر ابداعا وتطورا. ويقال قيمة كل امرئ ما أتقنه. وذلك يعني ان قيمة المرء لا تأتي مما أتقنه الجيل الذي قبله.
هذا التسلسل في الحديث عن الإبداع اليوم أو الاستناد الى إبداع من سبقونا هو تأمل في كثير من المواقف الذي يعيد فيه اليمنيون إنتاج ماضيهم وتمجيده هربا من مواجهة حاضرهم، وإحباط المنتجين فيه.
ولعل المدن والزخارف والمنمنمات والتشكيلات الجمالية الموضوعة في تقاطع الدوائر التي تعبر على نحو فج مباشر إما عن "الجمنة" أو عن "السد" أو عن "أرقام يوم الثورة" أو "أرقام يوم الوحدة" وغيره ما يوضح الإفراط في الماضي إلى حد كبير.
شباب وشابات الوحدة بحاجة الى الاندماج في مشروع جماعي إبداعي يتحررون فيه من الماضي وينتجون شيئاً ما مشتركا يعبر عنهم ويترك أثارهم للمستقبل. وليس هناك ابدع من الفن التشكيلي الحديث الذي يمكن عمله في مواقع محددة في خمس أو اكثر من مدن الجمهورية، يتشارك فيه مبدعون يمنيون مع غيرهم من الفنانين الذين يعيشون في بلادنا أو يزوروننا فقط للمشاركة في مثل هذا المشروع.
نقطة الانطلاق:
ينوي ملتقى الرقي والتقدم أن يتبنى مع أمانة العاصمة والشركاء المحليين وغيرهم من المهتمين، أول تجربة من هذا النوع في العاصمة صنعاء. فإذا نجحت التجربة تم العمل على تنفيذها في مدن أخرى.
والنقاش القائم حول كيف يكون التعبير الذي يتم تقديمه في مثل هذا المشروع هو الذي أوضح لي ان كثيرا من الناس يحبذون الاستغراق في الماضي حد الغرق. من ناحية هم على حق ومن ناحية أخرى هناك خلل. فكيف يجتمع الحق والخلل في وقت واحد؟ هذا ما أحاول توضيحه؟ فالذين يرغبون في مزيد من "الجمنة" و "الحرضة" و"الكعدة" وربما حجر سحق الطماطم "المسحقة" أو الطحن اليدوي، أو أدوات العصيد، لديهم حنين الى الموروث الذي كانت تقوم به وتقدمه الجدات في المدن، ولا يزال يعيشه اليوم كما هو سكان الريف.
والذين يرغبون في مزيد من كتابات المسند، أو تصوير لدار الحجر أو قصور سيؤون، أو جسر شهارة، أو صهاريج عدن، يشعرون أن كثيرا من مراحل التاريخ اليمني غير واضحة لدى اليمنيين وبحاجة إلى مزيد من التوضيح والتعميق.
والذين يستمدون من ثورة سبتمبر وأكتوبر ووحدة مايو تماثيل الأرقام التي تربط الأحداث بعرش سبأ أو بنسر شمر يرعش أو شاعرية امرئ القيس، هم أيضا من الذين يحرصون على جعل الثورات ضد الظلم وضد الاستعمار جزءاً من ثوابت اليمنيين المشتركة في الذاكرة والعقل الجمعي. وهم في كل ذلك، الى حد كبير على حق.
اين يكمن الخلل؟
استشراف المستقبل هو نافذة الحلم بوعد آت. هو طريقة تبرر الاستمرار وتحبذ المواصلة. والإغراق في الماضي يدير الظهر للقادم. فتفقد الأجيال الجديدة مبرر وجودها وتعايش الإحباط قبل أن تبدأ حتى في المحاولة.
مهمة المثقفين والساعين نحو الرقي ونحو التقدم أن يساهموا في صناعة محفزات العمل من أجل المستقبل. الذين انتجوا الثورات لم يستمتعوا بثمار الثورة لكنهم انتجوا واقعا مغايرا لما كانوا يعيشون فيه وأبدعوا شعرا ورسما وفنا وغناء حتى جعلوا الحلم مشتركا وحتى حفزوا الهمم من أجل التغيير ورسم صورة الآتي.
مشاريع مثل هذه يجب ان ينخرط فيها الشباب وتترك لهم الحرية كي يبدعوا ويحلموا ويصبح ماينتجونه اليوم أثرا عظيما تتمجد به أزمنتهم وتشكل مجال فخر للأجيال التي تأتي بعدهم. الشرط فقط أن تتاح لهم فرص المشاركة عبر الاعلان المسبق والمعايير الواضحة وشفافية المعلومات الدقيقة ونزاهة المحكمين في معايير القبول لمن يقوم بالمشاركة. والشرط الأساسي هو أن تتاح لهم الحرية في التعبير عما يرغبون أن يعبروا عنه.
[email protected]
* نقلاً عن صحيفة الثورة