د. عبدالوهاب الروحاني - ذات نهار غائم من شتاء 1985م كنت على موعد مع صديقي ايفان في مقهى بشارع صغير متفرع من جادة نيبولوموفسكايا »Neopalimovskaya« المؤدية الى وزارة الخارجية الروسية بموسكو..
وجدني على الموعد اجلس على كرسي لطاولة صغيرة في زاوية من المقهى اقرأ وأصحح في ملف بين يدي..
الفنجان الاول:
بعد التحية والسلام وطلب قهوتنا المفضلة، اشار الى الملف بين يدي، وقال: أهذا ما تريد استشارتي فيه؟
قلت نعم هذا هو
قال: اأعطني وقتاً لاقرأه واعطيك رأيي!!
أعطيته الملف.. ثم تحدثنا في قضايا دراستي وعمله.. كانت له علاقة بالاستشراق والعربية، غير ان لغته الثانية بعد الروسية كانت اللغة الانجليزية.. وكان يبدو فخوراً جداً بتعلمها، قال مزهواً "الانجليزية هي لغة العصر".
فقلت: ولكننا نتعلم هنا ان اللغة الروسية هي لغة الكسندر بوشكين، وليف تلستوي، ثم هي أولاً واخيراً لغة لينين ولغة العالم الشيوعي القادم..
أومأ ايفان برأسه مستنكراً علي ما قلته.
ايفان شاب روسي في الثلاثين من عمره، ممتلئاً حيوية وحماساً.. يعمل صحفياً وباحثاً في وكالة نوفستي السوفييتية..
مثقف معاصر، يمقت الماضي ويحلّق في فضاءات الانفتاح والحرية..
كانت موسكو حينها تعيش المراحل الاولى من تفتُّق الغلاسنوست (الشفافية) التي قادت ألى انهيار النظام السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية في اوروبا والعالم..
الفنجان الثاني:
بعد يومين زرت ايفان إلى وكالة نوفستي، وخرجنا الى ذات المقهى،حيث شربنا قهوتنا وتبادلنا اطراف الحديث، لكن هذه المرة كان عن الثقافة والاستشراق..
قال ايفان انتم العرب تعشقون الماضي وغارقون فيه.. لماذا برأيك؟!
قلت ربما لسحره.. ولأن لنا فيه امجاداً، وعظماء، ودولاً.. ثم صنعنا فيه تاريخاً يحلو لنا ان نفاخر به..
قال: وماذ ؟!
قلت: ولان في الماضي عبرة ونحن نتعلم منه..
بدوت منتصراً وكأني قد افحمت الرجل.. لكنه ثنى على كلامي واطرى، وشد على يدي مشجعا، ثم استدرك وقال : جميل التغني بالماضي.. لكن ذلك هو الماضي يا صديقي.. والماضي ان لم يتجدد بمنطق العصر وبآلياته وادواته فليس له معنى !!
تشعب بنا الحديث، ثم رجعنا الى موضوعنا.. الى الملف الذي سلمته للمراجعة، أتتذكرونه؟!
ذلك كان مشروع تخرجي للحصول على درجة الماجستير في الصحافة..
كتبته عن "دور الصحافة في التنوير والتثوير - مجلة الحكمة أنموذجاً"..
كان مدخل ايفان للحديث عن تعلق العرب بالماضي، فقد وجدني اغرقت في الحديث عن سبأ وحمير وانظمة الري.. وضيعت وقتاً وجهداً خارج النص.
فقال: انت يا صديقي ماتزال في بداية الطريق.. فلا تغرق في الماضي، وفكر جيداً في المستقبل.. فقد ضاع العرب وضاعت كل قضاياهم بسبب اغراقهم في الماضي.
فنجانان من القهوة كانا مدخلاً للتغيير في المنهج والتفكير.. وودعني ايفان مع عشقي للماضي وتركته يبحث عن فضاءاته التي يعشقها..
في عشق المؤتمر:
* رمزه الخيل وأصالته اليعسوب،
عشقه التربة، ومرجعه الحداثة،
تطلعاته أمل ودولة ونظام وقانون..
|