مطهر تقي - كثيرة تلك الرؤى والنظريات السياسية للحكم التي حاول مفكروها أن يصيغوها لتكون قادرة على التعامل مع متطلبات الحاضر واحتياجاته وقادرة أيضا على استيعاب المستقبل والتعامل مع مستجداته.. ولعل أقدم من حاول أن يضع بذرة سياسية في رحم الامة الاسلامية (في بداية الإسلام) هو عبدالله بن سبأ, حين قال لخليفه المسلمين الإمام علي رضي الله عنه: أنت.. أنت (أي أنت الله), فهم الإمام علي أن يجرد سيفه ليقتله فتدخل عبدالله بن عمر وطلب من الإمام علي أن ينفي عبدالله بن سبأ إلى العراق.
وتوالت الأفكار والنظريات السياسية وكذلك السياسية الدينية في الظهور والخفوت, حتى كان العصر الحديث فظهر اول فكر سياسي تكفيري في الجزيرة العربية في نهاية القرن الثامن عشر وهو الفكر الوهابي السلفي ومؤسسه محمد بن عبدالوهاب وحليفه السياسي محمد بن سعود الأول, وهو الفكر الذي انتشر في الجزيرة العربية ووصلت دعوته وأثره إلى عدد من الدول ومنها اليمن (خصوصا بعد المصالحة الوطنية عام 1970م).
وفي أوروبا في القرن الثامن عشر وبعد ضعف النظام الاقطاعي ظهرت الرأسمالية التي تقوم على تقديس الملكية الخاصة لموارد الثورة والسعي للربح كحافز للتقدم الاقتصادي ثم ظهر كارل ماركس في القرن التاسع عشر بنظريته السياسية الشمولية الذي أطلق عليها الاشتراكية العلمية (بقيادة العمال في الاتحاد السوفييتي "السابق" وبقيادة الفلاحين في بكين الصينية) تميزها عن الأفكار الاشتراكية الأخرى.. وتؤمن تلك النظرية يأن تاريخ المجتمعات البشرية هو تاريخ لصراع الطبقات... وقد اتسع نشاط تلك النظرية في عدد كبير من دول العالم ومنها الشطر الجنوبي للوطن الذي اعتنق حاكموه تلك النظرية بقيادة الحزب الاشتراكي.
وفي مصر وبعد انتهاء الدولة العثمانية (الخلافة الإسلامية) ظهر حسن البناء بنظريته السياسية الدينية الإخوان المسلمين لتكون امتدادا للخلافة الاسلامية بدعم مالي سعودي بريطاني وجاء من بعده سيد قطب الذي اضاف بُعْداً سياسياً دينياً أكثر تطرفاً لحركة الإخوان المسلمين في كتابه (معالم في الطريق) الذي نظر إلى المجتمع الإسلامي باعتباره مجتمع أكثر جاهلية من الجاهلية الأولى.. وقد نشطت تلك الحركة في عدد من الدول العربية والإسلامية ومنها اليمن التي مازال نشاطها حتى تاريخنا هذا بقيادة حزب التجمع اليمني للإصلاح (وفروع لاتجاهات سلفية أخرى)..
وفي أربعينيات القرن الماضي أسس ميشيل عفلق وصديقه صلاح البيطار حزب البعث العربي الاشتراكي (العلماني) الذي يدعو للوحدة العربية والاستقلال عن التبعية للقوى الغربية وقد حكم ذلك الحزب كلا من العراق وسوريا ومازال يحكم في سوريا في حين تم اجتثاثه في العراق بعد الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣م وقد نشط ذلك الحزب في عدد من الدول العربية ومنها اليمن في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي.
أما الناصرية فقد ظهرت بعد وفاة الزعيم عبدالناصر مستمدة برامجها من تجربة ورؤية الزعيم جمال عبدالناصر وقد تواجدت تلك الأحزاب في عدد من الدول العربية ومنها بلادنا.
وقد شكلت تلك النظريات السياسية والدينية فسيفساء متنوعة في الساحة اليمنية منذ الستينيات وخصوصا الإخوان والبعث والاشتراكية والوهابية والناصرية وشهدت صراعات وخلافات واحيانا تحالفات لكن الغالب عليها هو الخلاف والخصومة وخصوصا بين الأحزاب السياسية التقدمية وبين الأحزاب السياسية الدينية فاقتنع القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري في بداية السبعينيات أن الحزبية تبدأ بالتأثير وتنتهى بالعمالة فأصبحت الحزبية منذ ذلك الوقت في خلاف مع النظام وتحول نشاطها في صنعاء إلى شبه سري.. وبعد (انقلاب 31 يونيو 1974م) بقيادة الرئيس إبراهيم الحمدي سمح لبعض الأحزاب مزاولة جزء من نشاطها وحيويتها خصوصا الناصرية والبعث والإخوان (وشهد الشطر الجنوبي من الوطن سيطرة كاملة للحزب الاشتراكي طيلة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وسط صراع سياسي عسكري بين الأجنحة في الحزب).
وفي العام الأخير لحكم الرئيس الحمدي وبالتحديد أغسطس عام 1977م (قبل مقتل الحمدي في أكتوبر 1977م) حاول الرئيس الحمدي أن ينشئ حزبا سياسيا يجمع الشتات السياسي المتصارع ويضع حدا للصراع والخلاف السياسي الذي كان يدار من الخارج يسمى المؤتمر الشعبي العام ورأى أن يكون الاجتماع التأسيسي لذلك الحزب في مدينة الحديدة في شهر أكتوبر أو نوفمبر من نفس العام فكلف القاضي علي احمد أبو الرجال محافظ الحديدة وقتها أن يحدد امكانية عقد ذلك الاجتماع الموسع, من حيث سعة الفنادق وإمكانية استيعابها للمشاركين, وكذلك الصالة المناسبة لعقد ذلك الاجتماع التأسيسي, إلا أن القدر سبق تحقيق حلم الحمدي.. حتى كان عام 1980م حين رأى الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح تنفيذ أبعاد ذلك الحلم وأصدر قراراً جمهورياً عام 1980م بتشكيل لجنة الحوار الوطني برئاسة السيد حسين المقدمي (الهاشمي) (هكذا كان اسمه معروفا بين أوساط معارفه وأصدقائه كما قال زميله الأستاذ احمد جابر عفيف وهو يقدم كتاب سيرة حسين المقدمي) وعضوية نخبة من السياسيين والمثقفين والعلماء والمشائخ مهمتها الإعداد لقيام تنظيم سياسي يجمع الشتات السياسي المتناحر وفق رؤية وطنية سياسية متفق عليها من جميع تلك القوى السياسية والاجتماعية بعيدا عن التقليد أو والتبعية السياسية لأى نظرية سياسية أو فكرية في الساحة العربية أو الدولية ورفعت تلك اللجنة رؤيتها بعد عامين ونصف من الحوار الجاد والمسؤول إلى رئيس الجمهورية الذي أصدر توجيهاته بأن تتحول لجنة الحوار الوطني بكامل أعضائها إلى لجنة تحضيرية للإعداد للمؤتمر الشعبي العام حيث توزعت إلى لجان متخصصة وبدأت تلك اللجان الإعداد لعقد المؤتمر الأول في 24 أغسطس عام 1982م الذي حضره الف عضو تم انتخابهم انتخاباً حراً من كل المحافظات (كما يؤكد ذلك رئيس اللجنة السيد حسين المقدمي في كتابه ذكريات وحقائق للتاريخ) وهكذا ولد المؤتمر الشعبي العام بميثاقه الوطني وحقائقه الخمس وأدبياته التنظيمية من رحم الحوار والاتفاق, وبدأ مسيرته السياسية والفكرية والتنموية منذ إقراره من مختلف القوى اليمنية عام 1982م.
واليوم وبعد ثمانية وثلاثين عاما من تلك المسيرة وتجربته الديمقراطية والسياسية والتنموية وما حققته من نجاحات وما وقعت فيه من إخفاقات.. من واجبنا أن نتساءل:
هل المؤتمر الشعبي العام بأدبياته السياسية قادر على الاستمرارية والتعامل الإيجابي والفاعل مع زمن الحاضر بكل تعقيداته في ظل العدوان وتشرذم بعض من أعضائه هنا وهناك ومن فضل البقاء في الخارج لظروف سياسية أو شخصية يتابع المشهد السياسي من بعد وقلبه على الوطن والمؤتمر.
واعتقد أن أي حزب أو تنظيم ولدت أفكاره ورؤاه السياسية والثقافية والمجتمعية من رحم الحوار والقناعة وبعيدا عن العنف وانطلق أيضا من بيئة مجتمعية واحدة ولم يفرض من سلطة دينية أو عسكرية أو من طبقة اجتماعية أو سلالية متميزة.. سيكتب له الاستمرارية والقدرة على التفاعل المستمر مع هموم الشعب وتطلعاته ومع المستقبل وآفاقه.. وهذا هو حال المؤتمر الشعبي العام بقيادته الشرعية في صنعاء عاصمة الجمهورية اليمنية برئاسة الشيخ صادق بن أمين أبو راس أحد المشاركين في صياغه أدبيات المؤتمر ومن عاش زمن ولادة المؤتمر وعطاء شبابه ومن يحظى بتأييد غالبية أعضاء المؤتمر في الداخل والخارج خصوصا بعد تمكنه وزملائه القياديين في المؤتمر من قيادة المؤتمر عقب أحداث ديسمبر 2017م, وتجاوز الكثير من آثار ظروف تلك الفتنة وتعقيداتها وتفضيل قيادة المؤتمر الاستمرار في التحالف الذي عقده علي عبدالله صالح رئيس المؤتمر السابق مع قيادة أنصار الله في عام 2015م ضد العدوان الغاشم على بلادنا بالرغم من كل تعقيدات وصعوبة الغبن والتهميش التي يعيشها التحالف والتي أحدثت تململات بين صفوف المؤتمر وشغلت قيادته عن مواصلة نشاطاتها التنظيمية والسياسية كما يجب.
أقول: إن قيادة المؤتمر مدعوة اليوم والمؤتمر يدخل عامه التاسع والثلاثين من عمره المديد أن يقف وقفة تقييمية لاستعراض جملة النجاحات وجملة الإخفاقات طيلة مسيرة سنوات المؤتمر الماضية بكل واقعية وصدق.. خصوصا في جانب إخفاقاته وتجاوزاته السياسية فالحديث عن الامجاد والانتصارات والنجاحات بقدر أهميتها لتذكير الشعب عن الزمن الجميل زمن الأمن والاستقرار والتنمية إلا أن الأهم للولوج نحو المستقبل هو إصلاح الخلل والتجاوزات التي حدثت خصوصا خلل الممارسات مع القضايا الوطنية وتجاوز قيادة المؤتمر للوائح التنظيمية للمؤتمر... كما أن قيام قيادة المؤتمر بفتح بوابه التحالفات السياسية بين القوى السياسية القديمة (الاشتراكي شريك المؤتمر في إعادة الوحدة اليمنية) والجديدة والمؤثرة من شأن ذلك إضفاء دور أكبر للمؤتمر على الساحة اليمنية وتعزيز التوازنات السياسية فيها.
كما أن قيام قيادة المؤتمر بتقييم أداء وسلوك قياداته العليا والوسطية من حيث النزاهة والشرف مع الوظيفة العامة وكذلك علاقاتها التنظيمية مع قواعد المؤتمر ومحاسبة تلك القيادات على تجاوزاتها سيطهر المؤتمر من القيادات الوصولية والنفعية وخصوصا وهناك مبالغة مقصودة من بعض القوى السياسية المنافسة للمؤتمر بإلصاق تهمة الفساد والرشوة والمحسوبية بأعداد من قيادات المؤتمر ووزرائه (خصوصا بعد حرب 1994م حتى 2011م) ولابد للقيادة من إزالة تلك الوصمة بكل الإجراءات التنظيمية والقانونية.
كما أرجو على قيادة المؤتمر والأمين العام للمؤتمر بذات الاهتمام بالنشاطات التنظيمية والسياسية والثقافية والمجتمعية لأعضاء المؤتمر وفق برنامج سنوي متجدد وإعادة الحياة لتواصل القيادة مع القيادات العليا والوسطية السابقة للمؤتمر ووضع حد للقطيعة ولو من باب الشكر والتقدير للدور الإيجابي لتلك القيادات خلال السنوات الماضية ودعوتها لحضور المناسبات الوطنية والتنظيمية التي يحيها المؤتمر بين وقت وآخر مع التقدير والشكر لرئيس قيادة المؤتمر على البدء بتكريم مؤسسي المؤتمر بمجموعة منهم ابتداء من العام الماضي ولكن حين يشمل اهتمام قيادة المؤتمر كل من تميز بجهده في خدمة المؤتمر خصوصا بعد الوحدة المباركة من المحافظات الجنوبية الشرقية وغيرها من المحافظات طيلة الثلاثين السنة الماضية فتلك أيضا ستكون لفتة من قيادة المؤتمر على تلك المجاميع.
كما أن من الضرورة تقييم قيادة المؤتمر لأداء القيادات التي مازالت محسوبة على المؤتمر ومازالت في مناصب قيادية علي مستوى الأمانة والمحافظات والمديريات والفروع الخارجية ولا تقوم بواجباتها التنظيمية داخل أروقة المؤتمر ولا تقوم كذلك بواجباتها خارج المؤتمر من تواصل وتفاعل اجتماعي مع شرائح المجتمع وقضايا معيشته وهمومه الوطنية فبقاء تلك القيادات في مناصبها سيغيب المؤتمر عن ذاكرة المواطن وتنكمش شعبيته وذلك لاشك لا يصب في صالح المؤتمر والضرورة تحتم اختيار قيادات جديدة تقوم بواجباتها لإحياء نشاط المؤتمر بين أوساط المجتمع من الشخصيات النزيهة والنشيطة بين أوساط المجتمع.
وقد يقول قائل:
وماذا عن أدبيات ولوائح المؤتمر التي مضى عليها »38« عاما هل مازالت قادرة على التعامل مع المستقبل بروح متجددة أم أنها أصبحت بحاجة إلى التعديل وإحداث نصوص جديدة تكون قادرة على التعامل مع المستقبل ومتطلباته السياسية والثقافية والمجتمعية؟
ولاشك أن هذا التساؤل مهم وأتصور أن على القيادة أن تختار نخبة من التنظيميين والقانونيين المتخصصيين ليجيبوا عن ذلك التساؤل خصوصا في ما له علاقة بفروع تلك النصوص أما أصولها فهي ثابتة ويمكن لتلك النخبة أن تقدم تصوراتها لقيادة المؤتمر لتقوم بعرضها على المؤتمر العام القادم الذي سيعقد إن شاء الله بعد انتهاء الحرب واستتباب الأمن والاستقرار ليعلن وقتها إحداث نقلة تنظيمية وسياسية وثقافية تلبي متطلبات المستقبل وتفاعل المؤتمر معها في ظل الأمن والسلام.
أخيرا:
لابد من القول إن أمام المؤتمر في الحاضر والمستقبل القريب صعوبات وتحديات كبيرة يجب التعامل معها بحذر وهدوء وصبر خصوصا وأن القوى المتصارعة على الساحة اليمنية وصلت إلى حالة من العناد والتحدي ضد بعضها البعض وكل يحاول تثبيت قواعد تواجده على الأرض التي يتواجد فيها حسب رؤيته السياسة والمذهبية التي أرجعت اليمن إلى خلاف قريش في سقيفة بني ساعدة على من يخلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن له الحق الإلهي في حكم المسلمين كما أصبح رباط بعض تلك القوى مع القوى الخارجية رباطاً كاثوليكياً من الصعوبة الفكاك منه بصرف النظر عما إذا كانت تلك الرؤى تتوافق مع الدستور والنهج الديمقراطي واستقلال وكرامة اليمن وأسس الدولة المدنية الحديثة أم تتعارض مع كل ذلك.. وباختصار فاليمن على موعد مع المجهول والصراع الذي لا أفق لنهايته والشعب في كل أرجاء المحافظات اليمنية في حالة من القهر والبؤس والمجاعة وانتشار الأوبئة وكأن تلك القوى لا يهمها امر الشعب ومعاناته ولا يهمها إلا مصالحها والسلام الذي يخدم تلك المصالح أما اللقاء في منتصف الطريق لصنع السلام والأمن وتنازل كل الأطراف من أجل اليمن وشعبه فيبدو بعيداً عن استراتيجية تلك القوى (على الأقل في الوقت الراهن) ولا حول ولا قوة إلا بالله.
|