امين الوائلي -
تقول إحدى السيِّدات في إحدى الندوات أنَّنا يجب أن نُسلِّم بالنضال السلمي وما يترتَّب عليه أو يتمخَّض عنه من نتائج، حتَّى لو أفضى ذلك - ولاحظوا «أفضى» هذه كم هي مُدهشةٌ - إلى تقسيم اليمن إلى «دُويلاتٍ» وليس - فقط - إلى «دولتين» : «شمال وجنوب»!! وهذا هُو «النضال السلمي» آخر الحكاية، ويُراد له أن يتحوَّل إلى عقيدةٍ مُتطرِّفةٍ تحلُّ محلَّ العقل والدُّستور والقوانين ومحلَّ الوطن ذاته! نحنُ أمام فورانٍ طائشٍ لأيديولوجيا هجينةٍ تجمع بين الحذلقة المنطقية والتخريب السياسي، فمن ناحيةٍ يُقال لنا أنَّ «النضال» إنَّما هُو فعلٌ مشروع، خُصوصاً وقد أُضيف إلى «السلمي»، وكأنَّ مُجرَّد إضافة تسمية أو صفة «السلمي» ستُوفِّر المشروعية القانونية لمُجمل ما يُقترف من أعمالٍ ومُخالفاتٍ وتجاوزاتٍ تحت هذا العنوان السينمائي؟ والحقيقة - ببساطة - أنَّ الأزمة الحقيقية لديهم تكمُن في المُسمَّيات وليس التسميات. ومن ناحيةٍ مُرادفةٍ لذلك، يتمّ إلحاق النتائج المُحدَّدة سلفاً، والمُتمثِّلة في الوصول بالوطن إلى التصادم مع الذات والانقسام على النفس والعودة إلى ما قبل الوحدة المُباركة، يتمُّ إلحاق كُلّ ذلك بمقولة «المُمارسة الديمقراطية» القائمة على مُحدِّدات «الحُرِّيَّة، والحقّ، والنضال السلمي»! يعني كانت سابقاً تُدعى انفصالاً وهي اليوم تتجمَّل باسمٍ مُستعار، وكأنَّ هذا التغيير كافٍ لاكتساب المشروعية؟ وهكذا استساغ البعض الردَّة عن الوحدة وراح يُنافح بحُجَّة أنَّ الذي قرَّر وأراد ذلك هذه المرَّة إنَّما هُو «النضال الديمقراطي والسلمي والحُرّ»، وأنَّه يجب، تبعاً لذلك، احترام نتائج الحراك الديمقراطي إذا كُنَّا نُؤمن - فعلاً - بالديمقراطية! هل يبدو لكم القياس السابق مُحبطاً نوعاً ما؟! وهل يبدو - ثانياً - الاستنتاج المنطقي المذكور للتوِّ منطقياً ومقبولاً حتَّى عند أقلّنا خبرةً وأكثرنا لا عقلانية؟! غير بعيدٍ عن الافهام تحليل الصُّورة وإدراك أبعادها التفكيكية، فهُناك اليوم مَنْ يُحاول الاستعاضة عن تسمية الخيانة والردَّة والعُنف بتسمياتٍ مُمكيجةٍ من قبيل «الحُرِّيَّة، والحراك، والمُمارسة الديمقراطية للحُقوق المدنية المكفولة»، وأيضاً «النضال السلمي». وفي حين تتغيَّر التسميات، يبقى المضمون والفعل والغاية على حالتها الأُولى، ففي هذه وتلك يُرسم خطُّ سيرٍ إجباريٍّ يُؤدِّي في آخره إلى محطَّةٍ واحدةٍ تكون مُرتكزاً لإعادة تفريع خُطوط الوطن ورسم الحُدود الملعونة والمُصطنعة بين مناطقه وجهاته، تماماً كالذي يُشهر سكِّيناً ويهوي بها عليكَ وهُو يقول لكَ : «سأقتلك»، وآخر يهوي بها عليكَ وهُو يقول لكَ : «سأجعلكَ حُرَّاً»!! وأنتَ قتيلٌ في الحالتين! يُمكنكم الآن استنتاج الخُلاصة المُدهشة التي يُقدِّمها درس «الحراك الشعبي» المزعوم و«القضية الجنوبية» الملغومة و«النضال السلمي» المحموم، وهي أسماءٌ وشعاراتٌ راح يتقاسمها الفُرقاء، الذين باتوا الآن يتنازعون أحقِّيَّة تصدُّر الحركة أو تزعُّم الحراك أو مُصادرة مواقع القيادة وواجهة الإعلام والتسابق في الظُّهور الإعلامي بمظهر المُناضلين والثُّوَّار، ورُبَّما - أيضاً - المُهرِّجين! والخُلاصة ليست بعيدةً عن المتن ولا تختلف عن المُقدِّمات في شيء، وهي تجعل من التمزُّق والتفتُّت والتخريب والانفصال أعمالاً مشروعةً ومُبرَّرةً، لا لشيء، إلاَّ لأنَّ ذلك كُلّه - في حالة التمسُّك بالوصول إليه كخيارٍ وغايةٍ لا مفرّ منها وبأيَّة وسيلةٍ كانت - يتمُّ تحت شعار «النضال السلمي» و«الحراك الشعبي» المزعوم و«القضية الجنوبية»، مع الزعم الزائد بأنَّ السُّلوك والمُمارسة الديمقراطية هُما الفيصل الأخير الذي ارتضاه الجميع!! بل وزادت السيِّدة، التي أعجبتني لُغتها العربية السليمة إلى حدٍّ ما، ونُطقها أكثر من نصف الحُروف بشكلٍ صحيح، بأن طرحت خيار الدُّويلات وليس - فقط - الدولتين، مُفلسفةً الأُمور هكذا : «لِنَدَعْ الحراك الشعبي، وهُو مَنْ يُحدِّد خياراته في النهاية - إن شاء اللَّه تعالى - يُؤدِّي حتَّى إلى دُويلات، (مُش مهمّ) طالما وهُو حراكٌ ديمقراطيّ، مدنيٌّ وحُقوقيٌّ وسلميّ»!! هكذا ببساطةٍ مُثيرةٍ لحفيظة المناطقة، وأوَّلهم «أرسطو» أبو المنطقة «ذات نفسه»، على حدِّ تعبير الأشقَّاء السُّودانيين. ودعوني أكفر - بكُلِّ جدارةٍ واطمئنانٍ - بالديمقراطية و«الحُقوقي» و«النضال السلمي» وما إليها من الشعارات والعناوين المُستهلكة، إذا كان الإيمان بها سيسلبنا الإيمان بالعقل والوطن، وإذا كانت الحذلقة والسفسطة ستُحوِّل المشروع الحُقوقي والديمقراطي إلى مشروع حرائق وأكاذيب تمتهن العقل وتُهين الفكر وتكفر بوحدة الواحد وسيادة السيِّد وشعبية الشعب ويمنية اليمن واليمنيين. لم أشعر بالأسف لحال المُعارضين وقياداتٍ بارزةٍ - نحترمها - في «المُشترك»، أكثر ممَّا بدا عليه حالهم في الندوة ذاتها وهُم يتخبَّطون ويضربون يمنةً ويسرةً في التنظير للمسألة وللقضية الجنوبية وسواها، وكُلّ واحدٍ منهم يضطهد عقله ومبادئه، في مُحاولةٍ للتوفيق أو للتلفيق بين النقائض، حتَّى قال كبيرهم : «دخلتُ وأنا أُريد أن أعرف ما هي القضية الجنوبية، وأخرجُ وأنا لا أعرف ما هي القضية الجنوبية»! ولعلَّه ورفاقه لا يعرفون أنَّه لا تُوجد قضيةٌ من الأساس!
[email protected]