كمال البرتاني - عام 2014م أخذت اثنين من مسؤولي صحيفة الأهرام المصرية في جولة داخل سور صنعاء القديمة، أحدهما كان شغوفا بالمعرفة وحريصاً على التوثيق، يسأل عن كل شيء يشاهده، ويحمل كاميرا.
بين خطوة وأخرى، يتوقف ليصوّر واجهة منزل، وجه طفل، شيخا في زيّ شعبي. صوّر الكثير من المعروضات ذات النكهة اليمنية الخالصة، من الزبيب واللوز والحبوب والبن إلى الفضيات والعقيق والجنابي والفخاريات. كان مدركا أنه في مدينة لا تشبه أي مكان زاره من قبل. أما زميله فبدا مغرماً بالمقارنات: أمام باب اليمن كان يتحدث عن باب زويلة وباب الفتوح، في سوق الملح قال: ((خان الخليلي حاجة تانية)) وأمام الجامع الكبير تذكر الأزهر.
صاحبه يسألني عن صنعاء وهو يقاطعني متحدثا عن القاهرة، وعندما قلت إن عاصمتنا واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، إن لم تكن أقدمها، صمت بضع ثوان؛ فالمقارنة هنا لا تجوز لأن القاهرة بُنيت في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، في عهد الإمام الإسماعيلي (المعز لدين الله الفاطمي)، لكنه ظل وفياً لطبعه، فحدثني عن القاهرة التاريخية التي تتألف من طبقات متمايزة في تخطيطها ومعمارها: فاطمية- أيوبية- مملوكية- عثمانية، وأردف كلامه بالقول: (( وماتنساش يا عم إن عندنا أقدم حضارة في التاريخ، عمرها سبعتلاف سنة))، غمغمت بكلمة استطاع التقاطها، فتساءل: ((إيه يعني كش من عيني؟!)) ضحك زميله وأضحكني.
كان يشعر كأنه في سجن، ويستعجلنا الذهاب إلى معارض الملابس الحديثة كي يشتري ((هدوم مستوردة))، ولم يكف عن التذمر والشكوى من ألم ساقيه، مؤكداً أنه غير معتاد على المشي.
لم تترك صنعاء في نفسه أي أثر، وكان انطباعه الوحيد عنها، أنها ((مافيهاش ستات كتير))!!
اشترى زميله هدية لزوجته، وبعض التذكارات، واتجهنا نحو شارع القصر.
كنا في شهر مايو، الأعلام الزاهية واللافتات وصور الرئيس تملأ الشوارع. قال الصحافي المتذمر إنه لا يحب الأعياد الوطنية؛ لأنها تذكره بوطن مختطف وشعب مقهور . .((ناس عايشين في قصور، وناس مرميين زي الكلاب في العشوائيات والتُّرب.))
حاولت أن أشرح ما الذي تغير في حياتنا بعد الثاني والعشرين من مايو فقاطعني قائلاً: ((لكن مش كل الناس موافقة ع الكلام ده))، ورجع لمنهج المقارنة متحدثاً عن الوحدة المصرية السورية.
لحظتها عارضه زميله مؤكداً أن الوحدة اليمنية تجربة مختلفة، وأن العودة إلى زمان التشطير مستحيلة، ((لا يجوز مقارنتها بوحدة مصر وسورية، فبرغم كوننا جميعا ننتمي لأمة واحدة وإقليم واحد، إلا أن مسار التاريخ المصري السوري كان يمضي في اتجاهين متوازيين، وإن حدث بينهما بعض التقاطعات. كانت تجربة (الجمهورية العربية المتحدة) فاشلة، وفي تلك الحالة كانت العودة للوراء خطوة تصحيحية ضرورية؛ فما دامت الوحدة لا تنفع فالانفصال لا يضر. أما تاريخ اليمن فله مسار واحد منذ آلاف السنين، وإن وجدت تغيرات فهي سياسية وسطحية وطارئة، لا تمس ما هو عميق وثابت.))
اكتشفت فرقاً آخر بين الرجلين، أحدهما متابع ومهتم، قال إن يده كانت على قلبه في حرب 94م لأنه كان يخاف على وحدة اليمن، وكان قد قرأ عدداً من الكتب عن اليمن قبل مجيئه، وهذا ما يفعله دائما قبل أن يسافر إلى أي بلد، والآخر لا يكاد يعرف شيئاً ولا يريد أن يعرف سوى أسعار ((الهدوم)) وموعد الرجوع إلى الفندق.
اقترحت أن يطلعا على الصحف اليمنية؛ لأننا كنا أمام كشك بلقيس. ذهل الاثنان من عدد الصحف المحلية المعروضة، رسمية وحزبية وأهلية.
اشتريت لكل منهما مجموعة من أهم الصحف لقراءتها لاحقاً، لكنهما ظلا يتصفحانها أمام الكشك. كانت العناوين ساخنة ومثيرة، أحدهما فغر فاه وقال: ((لالالا، مش معقول. ديه مش حرية صحافة ديه قلّة أدب))!!
تُرى، ماذا كان سيقول لو قرأ صحف2011م؟!
والثاني عقد حاجبيه، وتمتم قائلاً: ((الحرية عندكم ليس لها سقف ولا ضوابط، انظر إلى هذا المانشيت))، وناولني صحيفة (الثوري)، والعنوان الذي أثار فزعه هو: (22 مايو كان يوماً أسود)!
|