د.سيف العسلي -
النهوض كما ورد في لسان العرب لابن منظور هو «البراح من الموضع والقيام عنه، وانتهضت الريح السحاب اي ساقته، ونهض الطير اي بسط جناحيه للطيران، والنهضة العتبة من الارض تبهر فيها الدابة او الانسان يصعد فيها من غمض» ان النهوض هو الانتقال الصعب من مكان الى مكان او من حال الى حال.. وهو بذلك يتطلب طاقة وقوة ، فالجسم الفاقد للطاقة لا يمكن ان ينهض اي انه يظل ثابتاً في مكانه، الميت لا يقدر على النهوض والطفل لا يستطيع ان ينهض والمعاق قد ينهض ببطء وبصعوبة وبمساعدة الآخرين.. الحيوانات قد تنهض، لكنها تنهض لا ارادياً لغايات محدودة ومتشابهة.. الانسان السوي هو القادر على النهوض إرادياً لغايات متعددة. الأمم يمكن ان تنهض اي تسعى بالانتقال من حال الى حال آخر.. لأنها تملك الطاقة اللازمة لتحقيق هذا النهوض.. وبما ان الامة مكونة من افراد فإن نهضتها مرتبطة بنهضة افرادها.. وحتى تكون الامة قادرة على النهوض فإن عليها ان توجه طاقة غالبية افرادها على الاقل في اتجاه واحد.. فإذا توزعت طاقات افرادها على اتجاهات كثيرة متعاكسة فإنها لا تستطيع اي نهوض، ولذلك تظل تراوح مكانها على الرغم من الطاقات المتاحة لها لتحقيق ذلك.. وفي هذه الحالة فإنه يطلق عليها أمة متخلفة او متأخرة. إن حجم النهوض وسرعته يعتمد على حجم الطاقة المتاحة وعلى درجة انسجامها، اي سيرها في نفس الاتجاه.. فالناس والامم لا تسيطر على حجم الطاقة فالله هو الذي يخلق هذه الطاقة، وقد أعطاها للأمم اجمع بدون تفضيل او تميز.. فلا توجد أمة من الأمم تتمتع بخصائص طبيعة أفضل من تلك الخصائص التي تتمتع بها الأمم.. فالشفرة الوراثية التي تحدد الخصائص الطبيعية للافراد وللأمم متطابقة تقريباً. صحيح ان هناك تفاوتاً قد يحدث فيها بين الافراد لكن لا يوجد تفاوت بين الامم سواء كانت بيضاء او صفراء او سوداء او ملونة. وبما ان الله قد اعطى خلقه جميعاً القدر الكافي من الطاقة المتمثلة في التفكير والابداع والعمل فإن تحقيق النهوض ممكن لكل الافراد الطبيعيين ولكل الامم التي تتكون من هؤلاء الافراد الطبيعيين.. فما من فرد من الافراد البالغين الاصحاء الا وقد اعطاه الله موهبة وقدرة معينة تجعله قادراً على تحقيق شيء ما يغير حياته وينقله من حال الى حال اخرى.. واي امة من الامم كذلك تستطيع توظيف مواهب افرادها لتغير اوضاعها. يتفاوت الافراد والامم -فقط- في الرغبة في استخدام هذه الطاقة، وفي القدرة على التنسيق بينها وفي السعي لتحديد الاتجاه الذي ينبغي النهوض اليه والسير نحوه.. فإذا كان الامر يخص فرداً واحداً فإن توفير هذه الشروط يكون سهلاً نسبياً وممكناً، يجعل نهوضه نسبياً كذلك فالفرد يملك سيطرة معقولة على رغباته وعلى أدوات تحقيقها.. اما اذا كان الامر يخص أمة او شعباً من الشعوب فإن توفير هذه الشروط قد يكون بالغ الصعوبة، فعلى الرغم من توافر الطاقة لديها فإنها قد لا تكون قادرة على تحقيق نهوضها.. ذلك لأن عملية التنسيق وتحديد الاتجاهات المرغوبة تحتاج الى مشاركة غالبية الامة، كما ان سيطرة فرد او جماعة على بقية افراد المجتمع لا يمكنه من التعرف على الرغبات الحقيقية للغالبية، وبالتالي فإن قدرته على ان يحل محلها محدودة جداً.. فاستخدامه للعنف لاجبار الآخرين على استخدام طاقاتهم بهدف التحرك في الاتجاه الذي يريده الفرد او الجماعة لا يجدي كثيراً.. ولذلك فإن الافراد الذين يقعون ضحية للعنف يملكون العديد من الوسائل التي يستطيعون بها مخادعة مستخدمي العنف.. الامر الذي قد يؤدي الى إجهاض عملية الحركة او السير بها في اتجاه معاكس وبالتالي إفشال عملية النهوض. ولذلك فإننا نشاهد في الواقع وعبر التاريخ ان هناك افراداً لم يتمكنوا من استغلال مواهبهم بالشكل المناسب او انهم لم يستطيعوا استغلال مواهبهم على الاطلاق، ولذلك فإنهم لم يوفقوا في تحقيق نهوضهم، وكذلك فإننا نشاهد في الواقع وعبر التاريخ ان امماً قد نجحت في إطلاق مواهب أفرادها في الاتجاه الصحيح فنهضت وتطورت، وفي نفس الوقت فإننا نشاهد امماً لم تنجح في ذلك.. والاكثر اندهاشاً ان التاريخ يظهر لنا ان العديد من الامم التي نجحت في تحقيق نهضتها توقفت عن السير في طريق النهوض وتخلفت. إذن النهوض والتطور ليسا حتميين ولا هي عملية تتم عبر الزمن، بل هما في حالة خاصة تتطلب عوامل خاصة ومحددة.. تتلخص هذه العوامل اولاً في وجود الرغبة او الطموح المشروع (الرؤيا) وثانياً في القيام بالعمل الصالح والمفيد (التنفيذ). الرغبة او الطموح المشروع (الرؤيا) هو الذي يحدد الدافع للحركة واتجاه الحركة، وفي حال الامة فإن توضيح الدافع للحركة امر في غاية الصعوبة خصوصاً عندما تنتشر الامية وتتفشى ممارسة الكذب والتضليل.. فالدافع للحركة هو الذي يخلق الرغبة.. وهذه الرغبة ليست رغبة الاقلية وانما ينبغي ان تكون رغبة الاغلبية -على الاقل- ففي هذه الحالة وحتى اذا ما تصادمت رغبة الاقلية مع رغبة الاغلبية فإن رغبة الاقلية ستتغلب، مما سيمكن الامة من النهوض، وحتى تكون رغبة الامة او غالبيتها صادقة وليست وهمية وباهتة فإن هذه الامة لابد وان تكون أمة حرة.. فالرغبة الصادرة عن الخوف او الصادرة عن التقليد والاتباع هي رغبة وهمية وواهية ولا قيمة لها، لأنها غير قابلة للاستمرار، فإذا كانت هذه الرغبة طارئة ومؤقتة ومتغيرة بشكل عشوائي في كل الاتجاهات المختلفة لا يمكن ان تحقق النهوض. ولذلك فإن هذه الرغبة لابد ان تكون محكومة بقيم اخلاقية.. فالرغبات الصادرة عن المصالح الخاصة غير المنضبطة نادراً ما تتحقق، واقل ندرة ان تكون مستدامة.. لأن الاتجاهات ستتعدد بتعدد الرغبات الخاصة غير المنضبطة، ولاشك ان قيمة العدل تأتي في اعلى سلم القيم الاخلاقية الضابطة للرغبات الخاصة والمنشئة للرغبات العامة، وعلى هذا الاساس فإن الرغبات والطموحات غير العادلة او الظالمة هي في الحقيقة رغبات وطموحات غير مشروعة.. ومن ثم فإن أية رغبة في النهوض تقوم على اساس من الظلم هي رغبة غير مشروعة، وبالتالي فإنها لن تتحقق الا اذا اعتمدت على القوة وليس على الحق، وفي حال حدوثها فإنها ضارة وغير قابلة للاستمرار، ومن المهم ان نلاحظ ان العديد من الطموحات المشروعة تتحول الى طموحات غير مشروعة في مرحلة من المراحل، مما يتسبب في التوقف والتخلف وتحول الامة التي تقع في هذا التصنيف الى أمة متخلفة بعد ان كانت أمة ناهضة. الرغبة والطموح لا يكفيان لجعل النهوض متحققاً على ارض الواقع بل لابد ان يترافق ذلك مع التنفيذ، فلابد من ترجمة هذه الرغبة او الطموح الى فعل يؤثر على الناس وبالتالي يعمل على تغير اوضاعهم على ارض الواقع وليس في الخيال فقط فاذا ترتب على هذا الفعل تغير في حياة غالبية الناس الى الافضل فإنه يعد عملاً صالحاً، واذا ترتب عليه العكس فإنه يعد عملاً غير صالح.. فعلى سبيل المثال الفعل الذي يترتب عليه تحسين مستوى حياة الناس يعد عملاً صالحاً.. اما الفعل الذي يترتب عليه قتل النفس بدون حق أو أكل أموالهم بالباطل هو عمل غير صالح. ولذا لابد ان يكون هناك توافق بين الرغبة او الطموح والعمل او التنفيذ، اي انه لابد ان يكونا متناسبين مع الطاقة المتاحة، ومن ثم فإن عملية النهوض تتطلب معرفة ما يمكن فعله، وما لا يمكن فعله، وكذلك معرفة الطرق التي تمكن من فعل ما يرغب فعله في ظل الطاقة المتوافرة والمتاحة. ان ذلك يعني ان تكون الرغبة والطموح في حدود الممكن، كما يعني ان تكون الافعال الضرورية لتحقيق هذه الرغبة او الطموح في إطار الممكن، لاشك ان ذلك امراً غير متاح على مستوى الكمال كون العلم والمعرفة هي عملية مستمرة لضبط الطموح الممكن مع الفعل الممكن، فإذا كان الطموح اكبر مما هو ممكن، فإن ذلك قد يولد التشاؤم واذا كان الممكن فعله اكبر من الطموح فإن ذلك يولد اضاعة الفرص. فمن غير الممكن المواءمة بين الرغبة والطموح والعمل الصالح بدون الاستعانة بالعلم والمعرفة، ذلك ان الرغبة والطموح عملية متقدمة على العمل الصالح من حيث الزمن، وبما ان الانسان لا يعلم الغيب فإن توقعه له عادة ما تصاحبه أخطاء، ذلك ان العلم والمعرفة يمكنان الانسان من تقليل الاخطاء المتوقعة الى اقل قدر ممكن كما يمكنانه من التعامل مع ما تبقى منها بأقل تكلفة ممكنة. وهنا يمكن القول بأن العلم والمعرفة ضروريان لجعل عملية النهوض اسرع ، وجعل تكلفتها اقل، فالامة التي تضبط طموحها بما يتوافر لها من معرفة وتسعى الى تقليل تكلفة افعالها لتحقيق طموحها من خلال تطوير معارفها حول طبيعة الافعال التي تنوي القيام بها، هي أمة سريعة النهوض وقادرة على الحفاظ على استدامته. فإذا ما حللنا النهوض اليمني وفقاً لهذا التصور فإننا سنجد بأننا نمتلك الطاقة الضرورية لتحقيقه على اعتبار ان الانسان اليمني يمتلك نفس المواهب التي يمتلكها اي انسان آخر، ومن ثم فإنه -من حيث المبدأ- قادر على ان يحقق نهوضه كما حققت الشعوب الاخرى نهوضها. إن عدم نجاح اليمن في تحقيق نهوضه ربما يعود الى عدم وضوح الرغبة او الطموح (الرؤيا) والى عدم توضيح الدافع المؤثر للقيام بالافعال الضرورية لتحقيق ذلك. صحيح ان هناك شعارات حول ما يرغب اليمن تحقيقه، لكن هذه الشعارات لم تتحول الى طموح مشروع (رؤيا) قابلة للتحقيق.. ومن مظاهر عدم وضوح الرؤيا انه لا يوجد اتفاق بين مختلف القوى السياسية حول اليمن الذي يرغبون به في المستقبل.. فعلى سبيل المثال فإن القوى السياسية المنضوية تحت راية المؤتمر الشعبي العام تركز على الجوانب الوطنية المتمثلة في استقلال القرار والسعي لإعادة المجد الحضاري لليمن.. وذلك غير كافٍ خصوصاً ان هذه الامجاد قد مضى عليها آلاف السنين.. اما القوى المنضوية تحت مظلة احزاب اللقاء المشترك فتتبنى شعارات متناقضة وغير واضحة تتراوح بين الشعارات الاسلامية والاشتراكية والقومية، ولذلك فإن الرأي العام يعاني من ضبابية وعدم الوضوح، وبالتالي فإنه لا يمثل عاملاً حاسماً في تحديد الطموح المطلوب والاتجاه المرغوب. لقد ترتب على عدم وضوح الرغبة والطموح عدم القدرة على تحديد الاتجاه الذي ينبغي على غالبية اليمنيين الانضواء تحته، وبالتالي ضعف الدافع للقيام بالافعال التي يجب القيام بها.. صحيح ان هناك ايحاءات حول ما يجب القيام به من خلال اتباع توجه تقليص دور الحكومة وتوسيع دور القطاع الخاص.. لكن هذا التصور ما يزال ناقصاً وفوقياً لم يعمق على مستوى القاعدة، ولذلك فقد قامت الدولة بتقليص دورها بشكل انتقائي وعشوائي، فقد انسحبت مما عجزت القيام به سواء كان ذلك فيما يندرج ضمن وظائفها الاساسية ام لا؟ فعلى سبيل المثال فقد تراجع دور الدولة في مجال الانظمة والقوانين وخصوصاً فيما يتعلق بالجوانب التطبيقية وفي مجال التعليم وخصوصاً التعليم الاساسي والمهني والفني, وفي مجال الخدمات الصحية, وفي مجال الرعاية الاجتماعية. وقد كان لعدم الوضوح هذا آثار اقتصادية واجتماعية كبيرة وخصوصاً ان القطاع الخاص والقطاع غير الحكومي (القطاع الخيري والمنظمات غير الحكومية) لم يستطيعا ملء الفراغ الناتج عن تقليص دور الدولة، فعلى سبيل المثال فإن القطاع الخاص لم يستطع توفير التدريب العملي لخريجي التعليم الرسمي، مما جعل العديد من هؤلاء لا يجدون وظائف بعد تخرجهم، وكذلك فإن تكاليف الخدمات الصحية الخاصة صارت تفوق قدرات العديد من الفئات الاجتماعية. وقد ضاعف من نتائج هذه الممارسات ان البعض لايزال يعيش أحلام العهد الاشتراكي، وعهد الدور القيادي للدولة والقطاع العام والمختلط، فالعديد من الشباب اليمني لايزال ينتظر من الحكومة ان توفر له الخبز والسكن والملبس والوظيفة المناسبة والتعليم المطلوب. ولم يدرك بعد انه يقع على عاتقه السعي لتعليم نفسه -قدر المستطاع- ولتطوير مهاراته المختلفة بهدف اقتناص الفرص المتاحة، حيث لايزال حلم العديد من شباب اليمن بأن يكون موظفاً حكومياً وليس رجل اعمال ناجحاً قادراً على خلق فرص عمل له ولأقرانه. لقد ترتب على هذا الغموض توفر مناخات مناسبة للتضليل والكذب والمزايدات الامر الذي أوقع العديد من اليمنيين، وخصوصاً الشباب في حبائل الوعود السياسية غير المنضبطة التي تطلقها مختلف القوى السياسية، وذلك ما تسبب في تعطيل الجزء الاكبر من طاقة اليمنيين ومواهبهم. ولمواجهة هذه التحديات فإن على المؤتمر الشعبي العام ان يعيد النظر ببرامجه وأدبياته وخطابه السياسي والاعلامي، بحيث يعكس ذلك رؤيا لمستقبل اليمن، وعليه بعد ذلك ان يطرح تلك الرؤيا للنقاش مع القوى السياسية الاخرى، فإن استجابت هذه القوى وتفاعلت مع هذه الرؤيا فذلك خير للجميع، وان اصرت على التمترس وراء شعاراتها الحالية، فإن على المؤتمر تجاوزها عن طريق التخاطب مباشرة مع الجماهير، بما في ذلك قواعد هذه الاحزاب والقوى بهدف إقناعها بجدية وواقعية الطموح الذي يقترحه المؤتمر، فإذا ما نجح في كسب ثقة الغالبية العظمى من الجماهير، فإن ذلك سيمكنه من تحقيق هذا الطموح من خلال تشجيع اكبر قدر ممكن من اليمنيين على استخدام طاقاتهم ومواهبهم في تحقيق طموح اليمن. اعتقد بأن ذلك ممكناً مما سيجعل عملية تحقيق النهوض اليمني سريعاً، فاليمن في الوقت الحاضر مؤهلة لعملية النهوض اذا استكملت النواقص، ففي اليمن تعددية وحرية كبيرة ، وفيها اساس جديد لتطوير التعليم، ويتوفر لها فرص كبيرة لتطوير نفسها. وفي هذا الإطار فإني اقترح على المؤتمر الشعبي العام بعض معالم الرؤيا وذلك على أن تحتوي هذه الرؤيا العمل على توفير وظائف لكل يمني سواء في داخل اليمن او في خارجه كأولوية قصوى ، ولتحقيق ذلك فإنه لابد من تطوير التعليم الفني والمهني لتلبية احتياجات السوق اليمنية والسوق الخليجية. ففيما يخص توفير وظائف في الداخل، فإنه لابد من السعي الحثيث لتحديث القوانين واللوائح المنظمة للعمل التجاري والاستثماري بطريقة يجعلها عادلة وواقعية. كذلك فإن على الحكومة اليمنية ان تعمل على تشجيع اصحاب المواهب بكل الطرق الممكنة ، ولعل من اهمها إعطاؤها الاولوية في التوظيف والتعليم والتدريب والحوافز الاخرى. لاشك ان هذا طموح معقول ومن الممكن تحقيقه ونجاحه سيعمل على استغلال الموارد المتاحاة لليمن بكفاءة معقولة وعلى تحسين مستوى معيشة اليمنيين بشكل جذري ، وفي حالة ما تحقق ذلك, فإن النهوض اليمني سيكون حقيقة واقعة وليس فقط حلماً من أحلام اليقظة.