د. عبدالرحمن الشامي -
حين يصبح التحريض مهنة، وتأجيج مشاعر الكره صناعة، وحين تغدو الإثارة فنا، وما يترتب عليها يمثل متعة لأصحابها، فإننا حينها نكون أمام أعمال صغيرة، وتصرفات غير مسؤولة، تصل حد الغوغائية، وتخرج عن مقتضى العمل السياسي، ومنطق المعارضة الوطنية الرشيد الذي هو في المقام الأول عمل مسؤول، يصب في النهاية في خانة الفعل الإيجابي،
الذي يقوي بناء الأوطان ولا يضعفها، ويعزز المسيرة الوطنية، ولا يوهنها، أو ينال منها، غير أن كل الممارسات السابقة تتم على نحو منتظم على مسمع ومرأى من الرأي العام الداخلي والخارجي، وتحدث تحت ذريعة ممارسة الحق في المعارضة، وتصنف في خانة النضال السلمي.
شرد الذهن بعيداً في رحلة مستقبلية عبر الزمن، متأملاً أوضاعنا في حال ما لو نجحت المعارضة؛ وبالتحديد أحزاب "اللقاء المشترك" في الانتخابات القادمة بتوليفتها الحالية المتآلفة شكلاً، والمتنافرة روحاً، وكيف ستقود دفة البلاد، وهل فعلا ستفي بكل ما تعدنا به صراحة أو ضمناً، بما يحقق لنا عيشاً رغداً، ويكفل حياة الرفاهية، ننتقل بموجبها إلى مصاف الدول الموسومة بدول الرفاه، أم أنها لن تتمكن من عمل ذلك، ولا حتى شيئا منه، بحجة انشغالها ساعتها بإصلاح الوضع الذي ورثته، وبدء البناء من مرحلة الصفر، لنعش وقتها حالة الصفر الحقيقية، أو تتذرع بأية ذريعة أخرى، لا أسهل منها، ولا أكثر من قدرة القوم على اختراعها، ودعمها بطروحات دينية، تعرف كيف تلوي النصوص، وتخاطب المشاعر، وتدغدغ عواطف البسطاء من الناس، ومن ما يرجح هذا النوع من الطرح، أو ما هو على شاكلته هو شغل بعض قيادات هذه الأحزاب، أو المنتسبين إليها لمناصب مختلفة أثناء مرحلة الائتلاف الحاكم، وتوليهم قيادة "وزارات" عديدة، لم يأخذوا بيدها بقدر ما أخذوا بيد الأنصار والمخلصين، والأقارب الأبعدين منهم؛ فضلاً عن الأقربين. غير أني عدت عن هذا الشرود الذهني، فليس في العمر متسع لمعايشة مغامرات غير محسوبة العواقب، كما أن البلد ليست حقلاً لتجارب المغامرين..أعترف صادقاً بأني لا أنطلق من موقف مسبق ضد المعارضة، ولا أكتب ضد ممارستها مدفوعاً بعواطف معينة، ولا بأي دافع آخر غير رفضي لكل طرح لا يتسم بالمسؤولية، وكل موقف لا تحسب عواقبه غير المحمودة، لأن ثمن هذا النوع من المواقف والتصرفات هو ما سندفعه جميعاً في حال وقوعه –لا قدر الله-، وسينال من بلدنا التي عانت –ولا تزال- الكثير، ونحن أيضا كذلك، ومن ثم فلم يعد بوسعنا اليوم تحمل عواقب أعمال المغامرين، ولا اليمن في حاجة إلى هذا النوع من التفكير الهدام الذي يتم تحت مسمى وهم البناء، وزيف الكلام المضلل.
فحين لا يبقى للمعارضة من عمل وسط هذا الكم من المشكلات المتفاقمة التي نعيشها اليوم بفعل عوامل داخلية وأخرى خارجية، حين لا يبقى لهذه المعارضة غير جمع "مليون" توقيع ضد رفع أسعار المواد النفطية ومشتقاتها، والذي تزعم المعارضة بأن الحكومة تنوي تنفيذها خلال الأيام القادمة، فهذه مسألة تدعو إلى الرثاء، وتبعث على الخجل، لأنها تنبئ عن مدى العجز الذي وصلت إليه المعارضة في بلادنا، حين لا يكون لفريق من قادة العمل السياسي إزاء هذا الشأن الاقتصادي المعقد غير هذا النوع من الطرح العقيم.
وحتى لا يفهم الأمر على نحو غير ما أرمي إليه، فلست هنا بمعرض المبرر لهذه الزيادة السعرية، ولا المدافع عنها، كما لا أنطلق من رفضها كلية، لإدراكي القوي بكم التعقيدات التي تكتنف هذه القضية، فأسعار هذه المواد وفق المتغيرات التي حدثت في السوق العالمية في السنوات الأخيرة، لا يعكس في الوقت الراهن أسعارها الحقيقية، لأن الدولة تدفع من الخزينة العامة ما نسبته 30% نيابة عنا، ومن ثم فإن استمرار الوضع على ما هو عليه الآن مسألة غاية في الصعوبة؛ لأننا ببساطة لسنا دولة نفطية، استهلاكها من الطاقة يأتي من ما يجود به باطن الأرض، ومن ثم فهو يقدم للمواطنين بغير أسعاره الحقيقية، كما أن بيع- ولا أقول رفع- هذه المواد وفق أسعارها الفعلية في السوق العالمية سوف يضفي على حياتنا مزيداً من التعقيدات المادية إلى جانب الحالي منها، فارتفاع أسعار الوقود يقابله زيادة في جميع مظاهر الحياة الحديثة التي تعتمد اعتماداً كلياً على هذا المصدر للطاقة، ومن ثم فإن القضية لا يحلها مجرد جمع "مليون" توقيع، ولا حتى "مائة" مليون، ولو أن بوسع هذه التوقيعات حل القضية لكنت أول الباحثين عن قائمة التوقيعات، وفي طليعة الداعين والمروجين لهذا العمل. فمن يكره ليس فقط عدم رفع أسعار المواد النفطية، وإنما تخفيض سعرها إن أمكن ذلك؟ غير أن الحلم شيء، وحكم السوق شيء آخر.
كان يمكن لأحزاب "اللقاء المشترك"، وكل متخصص وخبير، قادر على قدح الذهن والعقل المساهمة في اقتراح حلول تمكن من مواجهة هذه القضية، كأن نفكر –مثلا- في كيفية ترشيد استهلاك الطاقة في حياتنا عامة، وعلى نحو خاص في المدن الرئيسة، بتوفير بدائل ووسائل مواصلات أخرى، غير القائمة حالياً، سواء منها الشخصية أم العامة، توفر خدمة لائقة، ومستوىً كريماً، فنحن في حاجة إلى من يساعدنا في كيفية حل هذه المعضلات، والتغلب على هذه العوائق، وليس إلى تحويل الجموع إلى "كتبة" لجمع التواقيع التي لن تحل مشكلة الأسعار، ولا غيرها من المشكلات الأخرى.
نحن في حاجة إلى الخروج من حالة المعارضة العبثية التي تستنفد الجهود والطاقات في ما لا يعود بنفع على الناس، ولا يدفع ضررا عنهم، نحن في حاجة إلى الالتفات إلى مشاكل بلادنا الحقيقية، وأولها البدء بأنفسنا، فحين يستشعر كل فرد منا ما إذا كان مصدر نفع لهذا الوطن، أم أنه مجرد عبء عليه، وما الذي قدمه لوطنه خلال السنوات المنقضية من عمره، حين ندرك ذلك، أو حتى على الأقل نفكر فيه، ساعتها نكون على بداية الطريق الصحيح، أما أن نظل نشكو، ثم نشكو مرة تلو الأخرى، ولا هم لنا غير الشكوى ضد كل شيء، والتذمر من كل شيء، فإن هناك خطاً ما ساعتها في حياتنا، فالوضع الذي نعيشه هو بفعل أيدينا، وليس بفعل قوى خارجية ولا خارقة، وإصلاحه لن يتم بغير سواعد الجميع، وليس بفعل قوى خارجية ولا خارقة أيضاً.