طه العامري - الأمة العربية بكل مكوناتها ومسمياتها وقدراتها الذاتية والموضوعية وعلى الصعيدين القطري والقومي تعيش حالة انكسار حضاري وتتجرع مرارة الهزيمة التاريخية وتكاد تفقد كل مقومات وجودها المادي والمعنوي على خلفية حالة الاستلاب الحضاري الذي شمل جميع مناحي وجودها ؛ وهو الاستلاب المشفوع بظواهر الارتهان والتبعية ؛ وكل هذه العوامل أفقدت الأمة العربية قدرتها على التعبير عن وجودها ودورها ورسالتها الحضارية والتاريخية والإنسانية ؛ وهي الأمة التي أوكل إليها الله سبحانه وتعالى وعبر نبيها الخاتم محمد بن عبدالله عليه وعلى آله افضل الصلاة وعظيم التسليم أن تكون (خير أمة أخرجت للناس) ومنحها سبحانه وتعالى مكانة ووكلها بدور تاريخي عظيم وهي أن تكون أمة وسطاً لتكون شاهدة على الناس ويكون الرسول عليها شهيداً، وكرمها سبحانه وتعالى بأن أنزل (القرآن) بلغة أهلها أي بلغة العرب بقوله سبحانه (وكذلك انزلناه قرآناً عربياً) ولتأكيد دورها ومكانتها ورسالتها قال سبحانه وتعالى (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً) ؛ هذه الأمة التي تحمل رسالة وأمانة ربانية ؛ تعيش اليوم في حالة تيه وفشل حتى الانحطاط والتخلف بكل جوانبه ومظاهره ؛ ليس هذا فحسب بل وتخوض صراعات جانبية مع ذاتها وبين مكوناتها ؛ في لحظة زمنية لم يعد فيها القائمون على مصير هذه الأمة يكترثون بأي فعل يتصل بدور ورسالة وهوية الأمة التي تشطرت وتمزقت وتجزأت وتقسمت وتحولت إلى (أمم) والشعب الواحد أصبح (شعوباً) تتناحر فيما بينها وتخشى بعضها ؛ والقائمون عليها يؤمنون بأن مصدر قوتهم وديمومتهم هو في تحصين نطاقاتهم الجغرافية وتقديس حدودهم وتكريس ثقافتهم وهويتهم القطرية وبلغة انعزالية موغلة في مقت الآخر القطري والتربص به والحيلولة دون منحه فرصة للاستقرار داخل نطاقه الجغرافي المرسوم بقلم المستعمر وأسلاكه ..؟!!
ويمكن استشراف هزيمة الأمة قطريا وقوميا وإدراك حقيقة انكسارها وارتهانها من خلال السلوكيات التي تمارسها الأنظمة العربية الرسمية وأيضاً من خلال المواقف والتفاعلات الشعبية العامة والنخبوية ؛ حيث تبدو ثقافة التيه والارتهان تمثل القاسم المشترك لدى كل المكونات العربية الرسمية والشعبية القطرية والقومية لدرجة أن (الهوية الوطنية) التي كرست قيمها على مدى قرابة خمسة عقود من الزمن في سبيل طمس ومحو كل مآثر (الهوية القومية) المعبرة عن وحدة الأمة وهويتها وتاريخها ومصيرها وقيمها الثقافية والفكرية ؛هذه الهوية الوطنية غدت اليوم في دائرة (الكفر) ولم يعد لها مكانة في الوجدان والذاكرة _ القطرية _ بعد أن استبدلت بهويات متعددة _ دينية_ مذهبية_ قبلية_ طائفية _ مناطقية _ عرقية _ وفي أحسن الأحوال _ حزبية _ ومن ثم أصبح _ القطر _ أو الوطن _ تتنازعه عدة هويات كمقدمة لتحويل هذا الوطن إلى (أوطان) ومثال على ذلك ما يجري في _ اليمن _ وما تعيشه _ العراق _ وسورية _ والصومال _ والسودان _ وليبيا_ ولبنان _ وما يعتمل في _ مصر _ والجزائر _ والمغرب _ وتونس _ وموريتانيا _ وقبل كل هؤلاء كانت فلسطين وهي بمثابة بؤرة وعنوان البداية والنهاية للأمة بكل مقوماتها الوجودية ؛ دون أن نغفل الحالة (الخليجية) التي رغم كل مظاهر التفاعل والتطور الذي تعيشه هذه _ المحميات _ إلا أنها للأسف تسير في نفق مظلم ولكنها تضيء طريقها بما لديها من ثروات ؛ وهي الثروات التي جعلت هذه المحميات تتبنى أنماطاً استهلاكية وثقافية وحضارية تجسد في معظمها عقدة الشعور بالنقص لدى هذه المحميات وحكامها وانظمتها ؛ وهي العقدة التي تدفع أنظمة هذه المحميات إلى اعتبار (النفط) بعوائده بديلاً عن العمق الحضاري وكفيلا ًبأن يحقق لها السيطرة والنفوذ وإعادة رسم وتشكيل الخارطة والهوية والفعل والموقف ؛ تلبية لرغبات (رعاتها وحراسها) الذين استطاعوا بدهاء المستعمر الخبيث والحاقد على الأمة وهويتها ودورها ورسالتها أن يؤطروا هذه المحميات دوراً وهوية ورسالة وفعلاً وموقفاً في إطار انعزالي يجعلها بعيدة عن اشقائها وقريبة من أعدائهم واعدائها ..؟!!
يوم أمس وقفت أمام ثلاثة مشاهد عربية ؛ مشاهد غريبة ومريبة ومثيرة للتساؤل تمثلت وبكل صراحة أقولها في زيارة (وزير خارجية دولة الإمارات لدمشق ولقائه بالرئيس بشار الأسد) ؛ المشهد الثاني يتصل بزيارة (مساعد أمين عام جامعة الدول العربية لبيروت السفير حسام زكي وهي الزيارة التي جاءت بعد تصاعد الخلاف السعودي _ الخليجي _ مع لبنان على خلفية تصريحات قديمة لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي عن حرب السعودية والإمارات في اليمن) ؛ المشهد الثالث (يتعلق بالتصريحات السعودية والعربية والدولية عن حرب اليمن)..؟!!
هذه المشاهد (الثلاثة) تم ربطها من قبل مفكرين ومحللين وسياسيين وزعماء ومثقفين عرب بأنها تندرج في سياق (تعزيز الأمن القومي العربي)..؟!!!
السؤال البدهي والتلقائي الذي يمكن أن يوجهه أي مراقب عربي أو أياً كانت هويته وجنسيته ؛ هو : أي أمن قومي عربي هذا الذي يتحدث عنه هؤلاء..؟!
يرد عليك أيضاً أصحاب هذا الشعار نفسه من بعض النخبويين والنشطاء المدافعين عن (الأمن القومي العربي): أن دولة مثل (إيران) يجب أن توقف تمددها في المنطقة وأن ترفع يدها عن التدخلات في الشأن العربي، وأن توقف تدخلها في العراق ولبنان وسورية واليمن، وتوقف دعمها لـ(الميليشيات التابعة لها في المنطقة) ..؟!!
هنا وقبل أن أتساءل عن دور ومكانة (الأمن القومي العربي) فيما يتصل بـ(العدو الصهيوني) ودوره الاستعماري والاستيطاني، دعوني أتساءل عن (الأمن القومي العربي) وكيف غاب عن ذاكرة النظام العربي الرسمي وذاكرة النخب والنشطاء العرب منذ محادثات ( الكيلو 101) على طريق الإسماعيلية بين الضباط العرب المصريين والصهاينة وهي المحادثات التي كان عرابها وزير الخارجية الأمريكي سيء الصيت (هنري كيسنجر) المعروف بثعلب السياسة الأمريكية، وباركها ودفع بها ثلاثة ملوك عرب هم فيصل بن عبدالعزيز_ ملك السعودية، والحسن الثاني _ ملك المغرب ، والحسين بن طلال _ ملك الأردن، وكان الهدف منها هو (التطبيع مع الكيان الصهيوني) والاعتراف بشرعية وجوده وتمكينه من أن يصبح شريكا في الجغرافيا والتاريخ والهوية الحضارية والثقافية للوطن العربي ..؟!!
من تلك الواقعة المشؤمة مروراً بالاجتياح الصهيوني للعاصمة العربية (بيروت) وقبله ضرب الكيان الصهيوني (للمفاعل النووي العراقي) ثم تصفية وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت ؛ لتبدو الحكاية أكثر وضوحاً في قمة (الرباط العربية) عام 1982م حين تقدمت السعودية بمبادرتها (العربية للسلام) باسم ولي عهدها يوؤمها فهد بن عبدالعزيز ، تلك المبادرة التي كتب نصوصها الصحفي الأمريكي المقرب جداً من البنتاجون ومن الكيان الصهيوني توماس فريدمان ؟!!
ثم حدث حالة انتحار الأمة وأمنها ووجودها بحرب الخليج وغزو العراق للكويت وهو الغزو الذي خططت له أمريكا والصهاينة ؛ كارثة كان الرئيس الشهيد ياسر عرفات قد علم بها وعرف تفاصيلها منتصف عام 1989م عن طريق جهاز المخابرات الفلسطينية التي بدورها عرفت تفاصيل الخطة الأمريكية عن طريق احدى عيونها داخل مفاصل البنتاجون الأمريكي وحاول الرئيس الشهيد ياسر عرفات منع حدوث الكارثة فذهب للعراق وقابل الرئيس الشهيد صدام حسين ثم ذهب للكويت وقابل أميرها وولي العهد ولكن للأسف لم يستمع له أحداً منهما ؛ كانت واشنطن تعد العدة للحرب وتبشر بها في أوساط مؤسساتها العسكرية والاستخبارية ؛ وكانت بدايتها أن العراق خرج من حرب مع إيران شنت بدعم سعودي _ خليجي _ أمريكي يصفها بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي بأنها تندرج في سياق (سياسة الاحتواء المزدوج) أي أن يدمر العراقيون والايرانيون بعضهم خدمة لأمريكا ولحلفائها ..؟!!
كان العراق يطالب الكويت بمستحقاته عن نفط حقل (الرميلة الحدودي) وهو حقل مشترك عراقي _ كويتي ؛ ولم يستلم العراق حصته من عوائد هذا الحقل طيلة فترة حربه مع ايران ؛ وبعد انتهاء الحرب طلب العراق من الكويت (خمسة مليارات دولار) الأمريكيون طلبوا من الكويت أن لا تستمع للعراق ولا لمطالبهم ولا تدفع لهم شيئاً مما يطلبون ..؟ وأمريكا هي من ذهبت للعراق وطلبت منه أن يطالب الكويت بحقوقه ..؟!
ولأن الامريكان يدرسون جيداً شخصية من يتعاملون معهم فقد كانت لديهم صورة كاملة عن شخصية أطراف الأزمة في العراق والكويت ؛ وبعد لقاء (جدة) الذي فجر الموقف كان على الرئيس الشهيد ياسر عرفات مراجعة من ظنه الطرف الأكثر عقلانية وهو الملك فهد بن عبدالعزيز في لحظة كانت طبول الحرب تقرع وكان الامريكان قد اقنعوا حكام الخليج بـ(شيطنة العراق) ودعمهم في مواقفهم الرئيس مبارك ؛ وصل الرئيس عرفات بطائرته لمطار الرياض بالتزامن مع زيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي ليجبر الرئيس عرفات على البقاء في طائرته لمدة ثمان ساعات كاملة ولم يسمح له بالنزول من الطائرة إلا بعد مغادرة وزير الخارجية الأمريكي الرياض بعد لقائه الملك فهد ؛ ليصل الرئيس عرفات وقد الأمور حسمت وانتهت ومع ذلك ابلغ الملك بما يعرفه ولم يصدقها الملك واعتبر موقف الرئيس عرفات انحيازاً للعراق وحدث بعدها ما حدث في العراق والخليج حتى الغزو الأمريكي لعاصمة الرشيد ..؟!
تُرى أين كان (الأمن القومي العربي) يؤمها ..؟!!
دعونا من هذا وحتى لا أطيل أكثر ؛ أين هو الأمن القومي العربي في التآمر العربي على سورية ؟ وأين هو من المؤامرة على ليبيا ؟ وأين هو من العدوان الإجرامي بحق الشعب العربي في اليمن والذي لا يجوز تحت أي مبرر ؟ بل هل كان العدوان على اليمن فعلاً من أجل إعادة ما تُسمى (الشرعية) ودحر الانقلاب كما يزعمون ؟
إن خمسة عقود من الزمن لم نسمع خلالها في مقال أو خطاب أو تصريح أو بيان عن شيء اسمه (الأمن القومي العربي)، فلماذا حضر هذا المصطلح اليوم وبقوة في مواجهة إيران ؟! فيما الصهاينة يعربدون في المدن الخليجية، والشعب الفلسطيني بمواطنيه ومناضليه واطفاله وأسراه يُقتلون على يد الصهاينة، ومستوطنات تشيد واراضٍ عربية تنهب ومن دولة فلسطينية مساحتها 50٪ من أرض فلسطين الطبيعية فيما ما بقى من هذه المساحة سوى 9 ٪ فقط ولا تزال قابلة للمصادرة.. فأين الأمن القومي العربي ..؟!!
هذا السلوك المثير يثير غضب وحنق أي مراقب عربي يشعر بأن هناك من يستغفله ويهينه ويحط من قدره حين يسمع حديث بعض العرب عن (الأمن القومي العربي) المنحور من الوريد للوريد ؟!
بل لم يعد هناك أمة ولا قومية حتى نتحدث عن أمنهما ..؟!
منذ عقد من الزمن والعرب يدمرون بعضهم ويقتلون بعضهم ويستبيحون اعراض بعضهم ويتلذذون بسفك دماء بعضهم بل ويستعينون على بعضهم بعدوهم التاريخي وبحلفاء عدوهم ؛ ثم يستحضرون ما ليس لهم علاقة به ويتحدثون به لمواجهة مزعومة مع إيران ؟
لنعتبر إيران كما تريدون ان تعتبروها دولة لديها أطماع ولديها مشروع توسعي ونفوذ ؛ وهذا من حقها فكل دولة يجب أن يكون لديها مشروعها ونفوذها ونطاقها الناعم والجيوبلوتيكي ولنعتبر غيرها مثل تركيا التي تهدد وجود الامة حتى بإقدامها بقطع المياه عن سورية والعراق ؛ واثيوبيا لديها مشروع وتهدد مصر والسودان مائياً ..؟ والصهاينة لديهم مشروعهم ويهددون وجودنا القومي برمته ؟ فأين المشروع العربي الجامع أو الجزئي لمواجهة نفوذ إيران ؛ بل نفوذ كل هذه المحاور الإقليمية المجاورة للجغرافية العربية وفي المقدمة النفوذ الصهيوني وهو العدو الأخطر للوجود العربي قطريا وقومياً؟!
نعم جميعنا سنواجه نفوذ كل محور يستهدف وجود الامة ولكن تحت راية مشروع عربي شامل يعيد للأمة اعتبارها ومكانتها وهيبتها التي مرغها النظام الرسمي العربي في التراب ؛ هذا النظام الذي يريد مواجهة إيران تحت الراية الصهيونية _ الأمريكية وتلبية لرغبة صهيونية _ استعمارية وهذا ما لم يحتمله العقل ولا يقبل به أي عربي حر .
|