كتب / شوقي شاهر - الصراع البشري لايكاد ينتهي عند نقطة أو مرحلة معينة وذلك منذ فجر التاريخ وإن تغيرت أو تطورت وسائله وأدواته.. ذروة هذا الصراع انفجرت من خلال حربين عالميتين الأولى والثانية وراح ضحيتهما مايقارب 100 مليون شخص، واندثر على اثرهما عالم قديم وانبثق عنهما عالم جديد ومختلف عن سابقه ودخلت معه البشرية طورا جديدا من اطوار الصراعات و تم تسميتها حينذاك بـ "الحرب الباردة" وقد شهدت نهايات درامية خسفت معها بدول عظمى وجباره كانت قد احتكرت بقوتها العسكرية والسياسية والأيديولوجية ربما نصف العالم وتهاوت معها قوتها الحديدية تلك في غمضة عين ، وتحولت الدوله العظمى إلى دول ما انفكت وبلهفة شديدة تبيع إرثها لخصمها السابق واللدود ممنية نفسها بالدخول إلى عالم من الاحلام المغلفة مقابل سيجار فاخر أو وعودٍ منمقة يبدو أنها لم تدفع ثمنها كاملةً بعد.
يقول فوكوياما إن نهاية التاريخ تعني انتصار الليبرالية والرأسمالية والديمقراطية ،ولكن معلمه صامويل هنتنغتون يدحض ذلك بقوله إن أحد ابرز السيناريوهات التي تضمنتها أطروحته المتعلقة بما أسماه صدام الحضارات يتمثل في ظهور تحالف قوى يضم حضارات غير غربية مع بعضها البعض لتشكل توازناً اقتصادياً وعسكرياً أمام الحضارة الغربية والتي من جهتها تسعى جاهدة إلى إيقاف أي تطور طبيعي لأي قوة أو حضارة يمكن أن تصعد أمامها.
فهل ما يعيشه العالم اليوم من صراعات هنا وهناك يعكس حقيقة ذلك؟ وهل ستصبح " كييف هي " برلين " القرن الواحد والعشرين"؟
عندما تربع بوتين على كرسي السلطة في روسيا تمكن من إعادة ملامح روسيا القيصرية، واختال بطموحاته العسكرية والاقتصادية واصبح يدير محوراً وعدداً من الدول التي يمكن من خلالها ان يتم تشكيل تكتل صاعد بقوة سيسعى دون شك نحو استقطاع جزء واسع من السياسة الدولية، وسيصبح مناوئاً حقيقياً للغرب عموماً وهو يمتلك تلك المقومات التي مع المدى الطويل والمتوسط يمكنه أن يشكل من خلالها معسكراً جديداً وتحدياً خطيراً امام تكتل سياسي واقتصادي وعسكري وتقني تراكمت انجازاته على مختلف الاصعدة وسخر كل امكاناته تلك من اجل بسط نفوذه وسيطرته على العالم أجمع، ووأد كل مامن شأنه ان يمثل تهديداً ولو افتراضياً له.
ولعله من المفيد هنا ان نتذكر ان احد اهم الانتقادات التي وجهتها حملة بايدن الانتخابية للرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب هو تغاضيه عن التمدد الروسي نحو الشرق الاوسط وغيره من مناطق النفوذ الامريكي والذي بلغ أشده مع تمكن بوتين من توقيع عدد كبير من الاتفاقيات والمعاهدات مع ألمانيا والتي تعد اهم داعمي الخزانة الامريكية ،وبالتالي فقد جاء بايدن ليقضي على طموحات القيصر تلك وليس فقط ايقافها. فهل تجاوز بوتين فعلا الخطوط الحمراء التي رسمها المنتصرون عشية انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990.
إن حجم ردة الفعل التي يواجهها بوتين اليوم لتؤكد بالفعل انه كاد ان يحقق انتصارا مدويا وتماديا عده الغرب فاضحا واكتساحا ماكان ينبغي له ان يتم - من وجهة نظرهم - وسيطال بوابة الاطلسي وسيمثل استفزازا عميقا للناتو كما سيمثل هذا التقارب الكبير الروسي الالماني تحديا رئيسيا للانجلو ساكسون بالمقام الاول وهو الامر الذي يفسره تصدر بريطانيا والولايات المتحده لإدارة هذه الحرب واللتين اظهرتا من خلالها القدرة الفائقة والتخطيط الواسع لشن حرب وارباك الخصم دون ان تطلقا رصاصة واحدة غير عبر حرب ناعمة تلف من خلالها الخناق حول خصم يملك من ادوات الحرب والدمار مالم تملكه دولة ما عبر التاريخ ولكنه يصبح عاجزاً عن استخدامها بل ويضطر إلى طمأنة الاطراف الأخرى بأنه لا يفكر ولايعتزم استخدامها بل ويذكر بالاتفاقات التي تنص على الحد من انتشارها.
إن كل المعطيات اليوم تؤكد ان هذه الحرب ستطول إلى مدى لايستطيع أي احد التنبؤ بموعد نهايتها وماهي نتائجها، غير ان ضخامة الترسانات العسكرية والإمكانات الاقتصادية وكثافة الاوراق السياسية التي تمتلكها أطراف هذا الصراع والتشابك المعقد الذي يحكم العلاقات والمصالح الدولية، بالإضافة الى الرغبة الجامحة لدى عديد الشعوب والدول في وجود نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب، قد يعكس نفسه على استقطابات وتكتلات ستفضي إلى مخاض قد يطول أوانه وسيدفع بالعالم نحو حرب عالمية باردة ثانية ولكنها قد تكون هذه المرة أكثر سخونة، ويؤجج من أوارها تصريحات مسئولو الطرفين كمطالبة بريطانيا بإخراج روسيا من مجلس الامن مثلاً، او تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي مدفيديف بأن الحرب الاقتصادية قد تتحول إلى حرب حقيقية .
إذا هل تحققت اطروحة هنتنغتون حول ماأسماه بصدام الحضارات والذي سيبدو وكأنه صراع سياسي اقتصادي عسكري تقني فيما في جوهره هو صراع حضاري ثقافي ستسود العالم من خلاله ثقافة المنتصر؟
الإجابة نعم يبدو ذلك واضحا وجليا وسيبقى هذا الصراع مفتوحا مالم تصل الإنسانية إلى نموذج يجسد القيم والمبادئ التي من أجلها خلق الإنسان، والتعايش المبني على أسس العدالة والتعاون المشترك والديمقراطية وحقوق الإنسان.
|