طه العامري - * الأحداث التي تتفجر على الخارطة الوطنية اليمنية بكل أشكالها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، تجبرنا على التوقف أمام مقولة الزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر _رحمه الله _الذي قال ذات يوم بما معناه (لن تعرف اليمن الاستقرار طالما السعودية جارته)..؟!
خلال الفترة الممتدة منذ إطلاق الزعيم الراحل مقولته وحتى اللحظة التي تعيشها اليمن اليوم بأرضها وإنسانها شهدت سلسلة من الأحداث الكارثية التي عكست في جوهرها وتداعياتها حقيقة مقولة الزعيم ناصر من ناحية ومن الأخرى جسدت هذه الأحداث وتداعياتها المؤلمة حقيقة أخرى أكثر مأساوية وكارثية وهي غياب المشروع الوطني الجامع الذي يعبر عن واحدية الهوية والانتماء لشعب توحده الجغرافية واللغة ويوحده التاريخ والعقيدة والقيم الثقافية والمصير، وتمزقه للأسف (مشاريع النخب بكل مشاربها السياسية والفكرية والقبلية والوجاهية والمذهبية)..!!
أضف لكل عوامل التمزق هذه دور الخارج بكل محاوره وحساباته والأهم في هذه الأدوار الخارجية دور الجارة الأقرب _السعودية _من خلال نظامها السياسي الذي يعتقد أن اليمن يشكل مصدر قلق له في حال استقراره وبالتالي أجزم (النظام السعودي) على مصادرة استقرار اليمن وحرمانه من كل عوامل التطور والتقدم وحياة السكينة وجعله مجرد حديقة خلفية أو (مكباً للنفايات) وسوقاً تسوق إليها كل المخلفات الصلبة التي تتخلص منها الجارة وتلقى بها للأسواق اليمنية..؟!!
يؤمن النظام السعودي بمقولة منسوبة لمؤسس نظامهم فحواها تقول (إن خيركم وشركم من اليمن، فقوتكم في ضعف اليمن، ووحدتكم بتفكك اليمن، وتطوركم بتخلف اليمن)!!
وقد لعبت النخب اليمنية المتعاقبة دوراً في تمكين النظام السعودي من تحقيق غايته وتمكينه من التوغل داخل مفاصل النخب والمجتمع من خلال تنافر هذه النخب ومحاولتها الانتصار لمشاريعها الخاصة والبحث عن عوامل ومقومات هذا الانتصار بأي طريقة ناهيكم عن سياسة توظيف واستغلال (القبيلة) من قبل بعض رموزها الذين عملوا ومايزالون يستخدمون العصبية القبلية لتحقيق مكاسب سياسية ونفوذ يمكنهم من تطويع المشهد الوطني وفقاً لمصالحهم الخاصة بمعزل عن المصلحة الجمعية الوطنية، إذ يقف رموز القبيلة في وجه بناء الدولة اليمنية الحديثة، دولة العدالة والمواطنة المتساوية، ويرون في ذلك انتقاصاً من مكانة القبيلة ودورها وحضورها، فيما هناك قوى سياسية وحزبية ترغب في الوصول لدولة يمنية ولكن كل طرف منها يريد هذه الدولة تتشكل على مقاسه وحسب رؤيته وقناعته السياسية، ويمكن الاستدلال بما حدث عند قيام الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر 1962-1963م وكيف جوبهت بمواقف تنافسية ومكايدات عنونت أداء النخب السياسية التي راحت تكيد لبعضها وتشوه بعضها رغم الأخطار التي واجهت الثورة منذ لحظة ميلادها من قبل ترويكا الثورة المضادة التي حضيت برعاية كاملة من نظام آل سعود الرافض لفكرة الثورة اليمنية ليس حبا بنظام الإمامة بل رغبة في تمزيق المجتمع اليمني ودفع مكوناته للاحتراب الذاتي إتقاء لكل فعل إيجابي قد يأتي به التغير الثوري..!!
وبدافع خشية نظام آل سعود من مغادرة اليمن مظلة وصايته وهيمنته المطلقة على مقاليد الأمور في هذا البلد الواقع بين سندان آل سعود ومطرقة النخب المحلية الباحثة عن ذاتها على حساب الذات الوطنية..!!
لكن تبقى الخلافات والنوازع الداخلية اليمنية السلاح الأكثر فتكاً الذي وظفه واستغله الخارج الباحث عن مصالحه على أنقاض الشعب اليمني..
لقد أخفقت القوى السياسية التي راهن عليها شعبنا في إحداث التغير الاجتماعي وتحقيق الاستقرار والسبب حالة التنافس التي تخوضها هذه القوى فيما بينها منذ صباح يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م فتوافق هذه القوى على الثورة وإسقاط نظامي الإمامة والاستعمار لم يَحُلْ دون تفجر خلافاتهم الدامية في إدارة الدولة وشكلها وهويتها، ناهيكم عن تنافس محوري إقليمي ودولي على استقطاب مرحلة ما بعد الثورة وسعى كل محور خارجي نافذ في الهيمنة على المسار الثوري الجديد وقد استند كل محور على أتباعه في الداخل اليمني وهذه الحقيقة يمكن استنتاجها من تداعيات اللحظة الوطنية التي تداعياتها مرتبطة بحسابات الخارج في ظل تنافر داخلي تعيشه النخب اليمنية التي تكفّر بعضها وتخون بعضها ويلعن بعضها بعضاً..!!
* ثمة إشكالية أزلية تعيشها اليمن بكل مقوماتها وهي إشكالية (الهوية والانتماء) والتي تفاقمها أزمة غياب الدولة وهويتها وعدالتها وموقفها من المواطنة وهذه الإشكاليات المركبة لا يمكن حل جدليتها بمعزل عن (المشروع الوطني) الجامع والعقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الدولة والمجتمع وبين المكونات الاجتماعية ببعضها، وهذا المشروع الغائب لا يمكن أن تأتي به القوى المتصارعة حتى من خلال ما يسمى(بمؤتمر الحوار الوطني) الذي يتحدث البعض عن مخرجاته بقدرٍ من الحماس الزائف فهذا المؤتمر بكل مخرجاته لم يكن أكثر من (مخدر موضوعي) جاءت مخرجاته لتشرعن لتعدد الهويات وتكريس قيمها ومشاريع أصحابها على حساب المشروع الوطني الغائب والمغيب قسراً لصالح ترسيخ المشاريع الذاتية الخاصة حزبية كانت أو قبلية أو مناطقية وطائفية ومذهبية..؟!
وترى (الرياض) أن إعادة استجرار قيم (الطائف اللبناني) يمثل الوسيلة المثلى لضمان مصالحها وبقاء هيمنتها على اليمن وهي التي استطاعت خلال العقود المنصرمة إعادة تموضعها على الواقع اليمني عبر تمكين اتباعها وحلفائها في الداخل اليمني وقد تمكنت من إيجاد حضور لافت عبر تبنيها ترويكا من الرموز المحلية ومكنتهم من خلال دعمها اللامحدود لهم من الوصول إلى واجهة الأحداث وجعلت منهم شخصيات اجتماعية نافذة في المجتمع، ويمكن القول إن نظام الرياض وخلال العقود المنصرمة من مسارنا الوطني قدمت دعماً مالياً ومعنوياً لأفراد وشخصيات سياسية واجتماعية وقبلية يمنية ما يفوق بعشرات الأضعاف من تلك المساعدات التي قدمتها للحكومات والأنظمة اليمنية المتعاقبة منذ اعترافها بالثورة اليمنية عام 1970َم..؟!
بيد أن ما جرى يجري في اليمن منذ العام 2011م وحتى اللحظة وربما سيبقى إلى ما شاء الله، كل هذا يعكس ويعبر عن رغبة نظام آل سعود ورؤيتهم لما يجب أن يكون عليه الواقع اليمني، وفي خطاب أطراف الصراع اليوم ما يكفي لتأكيد حقيقة الإخفاق الذي تعيشه النخب السياسية اليمنية بما في ذلك أطراف الصراع الذين لا يعكسون في خطابهم موقفاً وطنياً أو رؤية وطنية يمنية من شأنها أن تزيح الكابوس الذي يجثم على صدور الشعب اليمني الذي بدوره يوزع ولاءته بين أطراف الصراع ويوغل في (تقديس) الرموز التي يتبعها ويواليها على حساب ولائه لوطنه وجغرافيته وحقيقة وجوده التاريخي والحضاري..!!
إن غياب المشروع الوطني وقيم الهوية والانتماء وإفراغ الثورة والجمهورية والدولة من منظومة القيم التي يفترض أن تعنون مسارها عوامل سهلت لأعداء اليمن مهمة تطويع وتتويه البلاد ونخبها التي ارتهنت لأولياء نعمتها ممن أغدقوا عليها بالمال والدعم وجعلوا من هذه الرموز بمثابة موظفين لديها.. ولم يجانب الاستاذ الراحل الشاعر عبدالله البردوني الصواب حين وصف (حكام اليمن بالفراشين على أبواب حكام الجارة الكبرى)..؟!
إن إشكالية بل أزمة النخب المتصارعة اليوم أكثر تعقيداً مما كانت عليه في الأحداث الدامية السابقة التي شهدتها البلاد بشطريها من بزوغ فجر الثورة اليمنية..؟!
إن أزمة اليمن اليوم تتمثل في غياب (المشروع الوطني) الذي بدوره مرهون بوجود الدولة الوطنية بقيمها العادلة وبهويتها الجامعة وواحدية المواطنة والمساواة فيها، وهذه المفاهيم الوطنية والحضارية لا يمكن استخلاصها او الوصول إليها في ظل النخب الفاعلة التي تتصدر المشهد اليمني الغارقة في تكريس مشاريعها الخاصة وتنفيذ أجندة حلفائها في الإقليم وهي أعجز عن تبني موقف وطني إيجابي يؤدي لإيجاد مشروع وطني يعزز قيم الهوية والانتماء الوطنيين بأبعادهما القومية والإسلامية والإنسانية، ينقل بموجبهما اليمن الأرض والإنسان من مربع العبث التدميري الراهن إلى مصاف العقلانية الوطنية والسكينة الاجتماعية والحياة الكريمة بعيداً عن هيمنة قوى النفوذ الداخلي أو قوى النفوذ الخارجي..
* في تداعيات المشهد اليمني يؤسفنا اليوم ما يصدر عن أطراف الصراع من خطاب كيدي تنكري إلغائي يحاول كل طرف عبر خطابه أن يجرد الآخر من وجوده وانتمائه الوطني في سردية يستحيل على ضوئها استشراف نهاية للمأساة الوطنية التي يكتوي بها الوطن والشعب منذ عام 2011م، إذ أن خطاب أطراف الصراع لايوحي بأن مسوقيه يدركون حجم المعاناة التي يكتوي بها المواطن جراء صراع تداخلت فيه الحسابات والمصالح الداخلية والخارجية، حسابات محلية وإقليمية ودولية، وما كان للحضور الإقليمي والدولي والخارجي بكل أشكاله أن يكون لولا الأطراف الداخلية التي ارتبطت بعلاقات مع الأطراف الخارجية ومنها تستمد شرعية نشاطها الداخلي وتستمد قوتها وحضورها على الخارطة الوطنية من الخارج وليس من أبناء وطنها الذين وان ناصروا هذا الطرف أو ذاك فإنهم يعملون ذلك إما بدافع الولاء الحزبي أو القبلي أو المناطقي والمذهبي وإما بدافع التسليم بالأمر الواقع بحكم السلطة والقوة..؟!
بيد أن المتابع لخطاب أطراف الصراع اليوم ينتابه الكثير من اليأس والإحباط عن الغد الوطني المظلم الذي لن يختلف عن الحاضر الوطني القاتم والملبد بغبار الحقد والكراهية وثقافة الإلغاء والتخوين التي يكيلها أطراف الصراع على بعضهم، وكل طرف يجزم بامتلاك الحقيقة المطلقة والشرعية الكاملة وما عداه فهم خونة وعملاء ومرتزقة، دون أن يكلف كل طرف نفسه نبذ ثقافة الكيد والتسليم بجدلية الحوار والحلول السلمية وأن الوطن يتسع للجميع، وأيضاً استيعاب ما حدث سابقاً من صراعات مماثلة انتهت بالتصالح والاتفاق والتوافق، لأن من يريد فعلاً بناء وطن موحد ومتماسك ودولة مواطنة جامعة وعادلة لايمكن أن يتحدث بخطاب الإلغاء والتنكر للآخر ..
أعترف بأني تفاءلت بتشكيل (المجلس الرئاسي) الذي أطاح برئاسة هادي وعلي محسن على أمل أن يبدأ المجلس الجديد بإطلاق مبادرات حوار يمني _يمني والبحث عن كل نقاط الالتقاء مع حكومة الإنقاذ في صنعاء لكني وبعد أن استمعت لخطاب المجلس الجديد وخطاب رد الفعل القادم من صنعاء أيقنت بصعوبة القادم الوطني وأكثر ما يرعبني أن يذهب أطراف الصراع إلى تشطير وتمزيق الجغرافية الوطنية بعد أن عملوا على تمزيق المواقف السياسية والقناعات الثقافية والفكرية وتغذية كل عوامل الفرقة والتمزق طيلة عقد من الزمن لم نسمع خلال هذه الفترة لأصوات العقل والحكمة إلا بعض الأصوات الخافتة التي لم يلتفت إليها أحد ممن يتوعدون بعضهم بالسحق والتنكيل والإلغاء والتهميش..؟!
والمؤسف أن الخطاب السائد اليوم والثقافة السائدة بين أطراف الصراع لم نعهدها حتى في خطاب (الثوار والملكيين) خلال سنوات الحرب بينهم التي امتدت من 1962م حتى 1970م وانتهت بالصلح والاتفاق وان حدث هذا بعد أن تم إفراغ الثورة من أهدافها ورموزها وكذا تجريد الملكية من كل خياراتها وحساباتها..؟!
اليوم تتصاعد الاتهامات بين أطراف الصراع وكل طرف يتهم الآخر بارتكاب كل الموبقات وبخطاب تحريضي ممنهج يدل على استحالة تحقيق استقرار وطني يذكر على يد هؤلاء الذين يثبتون افتقادهم للمشروع الوطني الجامع ويفتقدون للرؤية الواضحة في حل الإشكالية الوطنية المزمنة تاريخياً وهي حل معادلة (الدولة والهوية) وهي المعادلة التي تقف وراء كل الصراعات الدامية التي يشهدها هذا البلد منذ عصر سيف بن ذي يزن الذي انقسم فيه اليمنيون بين الولاء (لمملكة اكسوم المجاورة) أو الولاء (لمملكة فارس) البعيدة التي استنجد بها سيف بن ذيزن ثم انتهى به الحال إلى أن تم اغتياله على يد الجيش الفارسي وربما هذا ما حدث في العصر الحديث لرموز النظام الإمامي أو لعبد ربه وشرعيته..!!
تجسيداً لمقولة المفكر كارل ماركس (التاريخ لا يعيد نفسه إلا بصورة مأساة أو مهزلة)..!!
لتبقى التساؤلات باحثة عن إجابة لنهاية هذه المأساة الدرامية بكل تراجيديتها وتداعياتها، وكيف ومتى سيأتي الحل لليمن؟ وعلى يد من؟ بعيداً عن شعارات القوة والحسم والقتال حتى آخر مواطن يمني..؟
فحتى الانتصارات لها قيمة مادية ومعنوية واي انتصار يكون ثمنه الوجود الوطني برمته لاقيمة له ولا يندرج مثل هذا في سياق الانتصار، بل يعد شكلاً من أشكال الانتحار..؟!
وان كان ثمن ما يحدث هو التجزئة والتشطير أو أن تصبح الكنتنة هي الحل الأمثل لنهاية ما يحدث، أو أن كل طرف يتسيد على ما تحت أقدامه من الجغرافية الوطنية، فتلك هي الهزيمة بأبشع وأقبح صورها..!
ليبقى سؤالنا معلقاً.. إلى أين سترسو بنا الأحداث في بلاد تبحث عن ذاتها منذ ثلاثة آلاف عام..؟!
|