الميثاق نت - خولة الرويشان : - العلاقات بين دول المنطقة تقودها المصلحة وتفرضها التوازنات والمتغيرات
المرحلة القادمة في التعامل مع الخصوم تتصف بكسر القواعد
المنطقة تتهيأ لمرحلة جديدة من العلاقات تختلف عن المراحل السابقة
تحوُّل سياسة الصين الخارجية زادت من توجُّس أمريكا
تحركات روسيا العسكرية والحديث عن نظام دولي متعدد الأقطاب اعتبرته أمريكا تحدياً لمركزها
موجة من التغيير تجتاح العالم على مختلف المستويات معلنة أنّ السنوات القادمة ليست كسابقاتها، والحديث هنا لا يقتصر على إمكانيات تشكيل نظام دولي جديد نتيجة التغير في موازين القوى على المستوى الدولي، ولكنه تغيير يشمل المبادئ والبنى السياسية والاقتصادية والتحديات والوسائل، وليس الشرق الأوسط إلا جزءًا من هذا العالم ولعله الجزء الأكثر تأثرًا بموجات التغيير العالمية؛ كونه يتمتع باستقلالية أقل ولهشاشة بنيتيه الاقتصادية والسياسية، ما يجعل دراسة التغييرات التي من شأنها الحدوث فيه، ضرورةً ملحة تمكِّن من فهم المسارات وأفق التغيير الممكنة والملامح الأولى لمستقبل المنطقة، في ظل التغيير الجاري على المستوى الدولي ككل، ويمكن إجمال أهم ملامح التغيير الذي تشهدها المنطقة بمجموعة من المحاور، على النحو التالي:
أولاً: سياسة الانفتاح وتصفير المشاكل
من المعروف أنّ العلاقات الدولية كغيرها من العلاقات الإنسانية، تتصف بالديناميكية والتغيير كما أنه ما من شيء ثابت في السياسة، وإذا اتفقنا بشأن هذه القواعد فلن يكون من الصعب فهم التغير الذي تشهده العلاقات بين دول المنطقة، وهي تغيرات بعضها تقودها المصلحة، والبعض الآخر تفرضها التوازنات والمتغيرات على المستوى الدولي..
ولعل العنوان الأقرب لوصف المرحلة القادمة هو مرحلة التعامل مع الخصوم وكسر القواعد تتجسد أبرز ملامحها في عهد جديد من العلاقات التركية-العربية والتركية-الإسرائيلية من جهة أولى، وتحسن العلاقات بين السعودية والدول العربية الأخرى والمساعي الرامية لتحقيق المصالحة السعودية الإيرانية من جهة ثانية، والدفء الذي تشهده علاقات كلٍّ من قطر بمصر والدول العربية الأخرى عقب سنوات من الجفاء، مع احتفاظها في الوقت نفسه بعلاقات قوية مع كلٍّ من تركيا وإيران من جهة ثالثة فـ"في الثاني والعشرين من شهر يونيو الماضي، وصل ولي العهد السعودي الحاكم الفعلي محمد بن سلمان تركيا في زيارة رسمية استمرت لعدة ساعات(1). وأتت هذه الزيارة عقب زيارة الرئيس التركي للمملكة العربية السعودية في أواخر أبريل، استمرت لمدة يومين.
وقد أنهت هذه الزيارات حالة التوتر التي شهدتها العلاقات بين البلدين على مدى أعوام تسببت بها العديد من الأحداث والمواقف، لعل أهمها موقف تركيا من حركة الإخوان المسلمين، ووقوفها في صف قطر في الأزمة الخليجية، وزاد من حدة ذلك التوتر مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بتركيا، والذي اتهمت فيه تركيا أعلى مستوى للسلطة في المملكة العربية السعودية، وهو ما دفع بالسعودية إلى مقاطعة المنتجات التركية وإغلاق المدارس التركية في المملكة، وحظر النشاط السياحي بين الدولتين، وغير ذلك من الإجراءات التي عكست حدة التوتر بين الدولتين، وقد سبق هذه الزيارات "زيارة ولي عهد الإمارات محمد بن زايد آل نهيان لتركيا في نوفمبر 2021م، وكذا زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للإمارات في الرابع والعشرون من فبراير من العام الجاري"، زيارتان أعلن من خلالهما مرحلة جديدة من العلاقات بين الدولتين أنهت أعوامًا من الخلاف والتوتر تسبّبت بها حالة التنافس والتنازع في كلٍّ من ليبيا وسوريا إبان الحرب الأهلية التي تلت ما عرف بثورات الربيع العربي والخلاف بشأن الإخوان المسلمين وقطر وغيرها من القضايا.
وعلى الضفة الأخرى، تجري مفاوضات في بغداد تهدف لتقريب وجهات النظر بين كلٍّ من السعودية وإيران الدولتين الأكثر خلافًا واختلافًا في المنطقة، وفي الوقت نفسه تشهد علاقات كلٍّ من السعودية ومصر والبحرين بقطر مرحلة جديدة عقب سنوات من المقاطعة وتبادل الاتهامات بعد تحقيق المصالحة الخليجية فيما عرف بقمة العلا.
في الفترة نفسها، يتسلم السلطة في اليمن مجلسٌ رئاسي مكون من 8 أعضاء، مثّلت الأطراف ذات الثقل السياسي والعسكري على الأرض بقرار أصدره الرئيس السابق عبدربه منصور هادي ليستهلّ المجلس مهامه بجولتين خارجيّتين، شملت الجولة الأولى زيارة كلٍّ من السعودية والإمارات، في حين شملت الجولة الثانية زيارة كلٍّ من الكويت والبحرين وقطر ومصر، وانتهت بالسعودية مرة أخرى كاسرة بذلك حالة الفتور التي شهدتها علاقات اليمن بكلٍّ من الكويت وقطر على وجه الخصوص، وحالة الجمود التي شهدتها العلاقات اليمنية ببقية الدول في المرحلة السياسية السابقة.
في حين مضت الدول العربية في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، غير آبهة بتبعات ذلك على القضية الفلسطينية وكاسرة حالة الإجماع العربي حول القضية الفلسطينية وسبل حلها.
المواقف المذكورة أعلاه ليست إلا جزءًا من مجمل المواقف التي شهدتها العلاقات بين دول المنطقة، وهو ما يعني أن المنطقة تتهيأ لمرحلة جديدة من العلاقات وأنماط السلوك تختلف كليًّا عن المراحل التي قبلها، وعاكسة في الوقت ذاته حجم التأثير الذي لحق بها جراء الكثير من المتغيرات التي حدثت وتحدث على المستوى الدولي.
ثانيًا: عودة الصراع بين الشرق والغرب
حاولت بعض الدول في الفترة من ستينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي بلورة نظام عدم الانحياز والذي يقوم على فكرة استقلالية الدول المنطوية فيه؛ وبالتالي عدم اللحاق بأيٍّ من المعسكرين"، لكنها لم تنجح، وظلت تابعة في سلوكها ومواقفها لأحد المعسكرين إلى حين انهيار نظام الثنائية القطبية؛ وبالتالي انتهاء الحرب الباردة وحالة الاستقطاب التي تزامنت معها ليدخل العالم مرحلة القطب الواحد ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها دول أوروبا الغربية وحلف الناتو، وخلال هذه المرحلة أصبح لدى مختلف دول العالم مساحة نسبية في الاختيار فيما يتعلق بطبيعة النظم ونوعية المواقف وبرزت إلى السطح قضايا كحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، وقضايا المناخ والبيئة، وظلت أمريكا خلال هذه المرحلة صاحبة الكلمة الفصل في مختلف القضايا، وسعت الدول إلى الحصول على حمايتها والدوران في فلكها وتبني السياسات التي من شأنها إرضاؤها باعتبارها القوة الأعظم في العالم، وتلاشى الحديث عن قوى الشرق المنافسة لسنوات، لكنه سرعان ما عاد للظهور بصعود الصين كقوة اقتصادية متقدمة وبقدرات عسكرية وتقنية هائلة، ما دفع أمريكا لوصفها بالدولة المارقة إلى جانب مجموعة من الدول الأخرى، تلا ذلك صعود روسيا كقوة عسكرية، خصوصًا في ظل الإرث النووي الذي حصلت عليه من الاتحاد السوفيتي، وهنا شرعت أمريكا بوسم الأنظمة في هذه الدول بالسلطوية الاستبدادية، وبدأت تتجه شيئًا فشيئًا، نحو الخطر القادم منهما على النظام الوليد الذي تترأسه، ومع أنّ الصين "بقيت على مدى تلك السنوات بعيدة عن الدخول في أية تحالفات ولم تتورط بالتدخل الفعلي في مختلف القضايا التي شهدها العالم"، وبما فيها منطقة الشرق الأوسط واكتفت باتخاذ مواقف معينة في المحافل الدولية من خلال حقها في استخدام حق النقض الفيتو والتصويت على قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن تلك القضايا من عدمه إلا أنها لاحقًا وقّعت اتفاقية دفاع مشترك مع كوريا الشمالية وظهرت بصورة الحليف لكلٍّ من روسيا وإيران في مختلف القضايا، بالإضافة إلى سعيها لتشكيل شبكة من العلاقات والتحالفات من خلال شركاتها المنتشرة في مختلف بقاع العالم، وهو ما عنى تحولاً في سياسة الصين الخارجية التي بدورها زادت توجس أمريكا، ومن ناحية أخرى شرعت روسيا في تحركاتها العسكرية، والحديث عن نظام دولي متعدد تحظى فيه الدول بشيء من المساواة والندّية في التعامل، واتخذت مواقف مناهضة للموقف الأمريكي في كلٍّ من سوريا وليبيا، كما أنها ضمت جزيرة القرم في العام 2014م، وسعت لبناء شبكة من التحالفات السياسية والعسكرية، واتخذت مواقف مناوئة للموقف الأمريكي في المحافل الدولية، وهو ما اعتبرته أمريكا تحديًّا واضحًا لمركزها. وانتهى الأمر بغزو روسيا لأوكرانيا والذي يمكن اعتباره بداية فعلية لعودة الصراع بين الشرق والغرب.
ومع أنّ الحرب الروسية في أوكرانيا كان بالإمكان تجنب حدوثها، إلا أنّ هناك من أراد لهذه الحرب أن تقوم لسببين؛ الأول: اختبار القدرات العسكرية الروسية والتي طالما نظرت إليها أمريكا ودول غربية إليها كتهديد وباعتبار أن قوة روسيا ترتكز وبشكل رئيسي على القوة العسكرية، والثاني، والأهم: استنزاف هذه القوة بأكبر قدر ممكن، في حين أراد الروس نشوب هذه الحرب لكسر هيبة القوى الغربية كما يعتقدون، وإثبات الوجود الروسي كعنصر فاعل في النظام الدولي، وهو ما أعاد الصراع بين الشرق والغرب إلى الواجهة".
وبينما اتخذت دولٌ دور الوسيط كتركيا وإسرائيل، سعت دول مثل إيران إلى استغلال الوضع بعرض تقارير عن كميات إنتاجها النفطي وقدراتها الإنتاجية وقدرتها على رفع حصصها في سوق الطاقة"، محاولة بذلك عرض ما يمكنها تقديمه في إطار هذه الحرب، وتحديدًا في إطار مساعدة الغرب على الاستغناء عن الطاقة الروسية في حال رفعت عنها بعض العقوبات.
وتعيش الأنظمة في الشرق الأوسط حالة من التخبط وعودة حالة الاستقطاب والتنافس بين الشرق والغرب، الذي غالبًا ما تدفع المنطقة ثمنه. ولعل المصالحة الخليجية في قمة العلا لم تكن نتيجة مسار ديناميكي معقول وإنما بإيعاز غربي. والأمر نفسه ينطبق على محاولات أمريكا دمج إسرائيل في المنطقة، وكذا مساعيها لتقريب وجهات النظر بين إيران والسعودية ومصر وتركيا…إلخ، كل هذه الجهود يمكن عدها بمثابة إعادة اصطفاف بهدف تكوين تحالفات مناهضة للشرق، وبحيث يقطع الجانب الغربي أمام الروس فرصة تشكيل تحالفات ذات معنى مع هذه الأنظمة باستغلال الخلافات بينها، فالمنطقة مهمة في صراع كهذا، وأكثر أهمية للجانب الروسي، حيث تمثل الممر الوحيد له إلى البحار المفتوحة، وهو ما يجعلنا نقرأ التغييرات التي تشهدها المنطقة في ضوء التغييرات على المستوى الدولي في جزئها الأكبر.
|