طه العامري - أوفدت حكومة ما تُسمى (الشرعية) وفدا حكوميا إلى جمهورية (رواندا) مهمته الاطلاع على التجربة الرواندية والكيفية التي تمكنت بها هذه البلاد الأفريقية من تجاوز أزمتها الداخلية وآثار الحرب الأهلية التي خاضتها في أوائل ومنتصف تسعينيات القرن الماضي وهي الحرب الأكثر شراعة وبشاعة التي تفجرت بين طائفتي (الهوتو.. والتوتسي) وهما القبيلتان اللتان تتكون منهما البلاد والمجتمع، وقد خاضت القبيلتان حرباً أهلية ذهب ضحيتها مئات الآلاف، حاولت خلالها كل قبيلة تصفية الأخرى ولكن بعد مجازر بشعة هزت ضمير العالم، وبعد فشل كل قبيلة في تصفية الأخرى والتفرد بإدارة البلاد وقفت الحرب بتدخل أممي واقتناع اتباع القبيلتين باستحالة تغلب إحداهما على الأخرى، ليعودوا جميعا إلى طاولة المفاوضات، بعد أن تم تحويل أمراء الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية ليحاكموا كمجرمي حرب، وقد أصدرت المحكمة الدولية سلسلة أحكام ضد كبار القادة العسكريين والسياسيين منها بالسجن المؤبد ومنها بعدة سنوات وهناك من تمت تبرئته من قبل المحكمة..
كانت الحرب قد توقفت في هذا البلد عام 1996م تقريباً، وتشكلت حكومة انتقالية بإشراف أممي، أنحصرت مهمتها في صياغة دستور وطني، وتطبيع الأوضاع الاجتماعية، ولملمة جراحات الشعب والمصالحة الوطنية، لتبدأ مرحلة الاستقرار في هذا البلد منذ عام 2000م بإجراء انتخابات رئاسية ونيابية وتشكيل حكومة وطنية نقية من أصحاب المشاريع القبلية والطائفية والعنصرية،
(جمهورية رواندا) هي أصغر دولة أفريقية، وتعد أكثر كثافة سكانية مقارنة بمساحتها قرابة 13 مليون نسمة، وتعرف( ببلد الألف تل)، دستور رواندا يحرم الطائفية أو التلفظ بعبارة طائفية ويعاقب بالسجن كل من يتلفظ بمثل هذه الألفاظ وإن على سبيل المزاح..
تم تطهير البلاد من الفاسدين، ووفق الدستور الرواندي فإن الفاسد خائن للوطن والشعب، ويعاقب الفاسد الصغير قبل الكبير ان وُجد، لأن رواندا وحسب منظمة الشفافية الدولية أصبحت الدولة الأولى في العالم الخالية من الفساد والفاسدين منذ العام 2008م وفي رواندا يحرم على المسئول استغلال وظيفته لتوظيف أقاربه ولو كانوا أولاده، لا بوظيفة مرافق أو سكرتير ولا حتى سائق..!!
قبل عامين أطلقت رواندا قمراً صناعياً للاتصالات خاصاً بها، وتحققت معدلات تنموية غير معهود تحقيقها في أي دولة من دول العالم الثاني، فما بالكم بالعالم الثالث التي تناسب إليه -مجازاً-رواندا..
والسؤال هو ماذا يمكن أن تستفيد منه اليمن او ما تُسمى حكومة الشرعية من رواندا وكل ما في رواندا لا يمكن قبوله أو العمل به في بلادنا، ولا يمكن أن يطبق في بلادنا، ومن المستحيل أن يتقبله مسئولونا أو يخضعوا لقوانينه، فنقل التجربة الرواندية لبلادنا تحتاج لعقول كبيرة وقلوب نقية وضمائر وطنية صادقة، ولو كان أصحاب هذه العقول والقلوب والضمائر متواجدين فينا لما خضنا في الأزمة والفتنة والاحتراب، ولما احتجنا أن نذهب لهذه الدولة لنتعرف على طريقة تعافيهم مما كانوا عليه.
أعترف بأن ما تعيشه بلادنا ويكتوي بنيرانها وويلاتها شعبنا شيء مؤلم وبشع وغير مقبول، لكني بذات الوقت أرى في كل ما يجري واحدة من الوسائل التي قد تعيد هذا الشعب ونخبه إلى وعيهم المسلوب أو المفقود أو المصادر، إيماناً بقوله تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)، وقد يولد من تحت غبار الأزمة والفتنة والحرب ورائحة الدم والبارود، وعي وطني جامع يؤمن بقيم الهوية والانتماء وبوحدة المواطنة وتكافؤ الفرص، ودولة مدنية حديثة، دولة ونظام لا يستأثر بها القوي على الضعيف، ولا قبيلة تتفرد بمصيرها أو طائفة أو مذهب، دولة يحكمها عقد اجتماعي يعبر عن إرادة كل أبناء الوطن ونظام وقانون يخضعان الجميع دون استثناء، وسلطة يختار الشعب رموزها ومسئوليها، تكون معبرة عن أحلامه وتطلعاته، خالية من الفاسدين ومستغلي الوظيفة العامة، ونقية من كل حملة الشوائب والعصبيات القبلية أو المذهبية أو الطائفية والمناطقية والحزبية والفئوية، بل تكون المسئولية وطنية، ولاء رموزها لله ثم الوطن والمواطن، سلطة يكون كل رموزها خداماً للشعب لا حكاماً متسلطين عليه..
لذا قلت ان ما يحدث في رواندا يصعب قبوله وتطبيقه في بلادنا، وبالتالي فإن رحلة ذلك الوفد شكل من أشكال التضليل اعتدنا عليه، فنحن وفي سنوات خلت وقبل الأزمة والفتنة والحرب، وكنا غارقين بالفساد وثقافة الإفساد وقعنا اتفاقية مع (منظمة الشفافية الدولية) دون أن ندرك تبعات هذا التوقيع..؟!
ولكنا وقعنا من أجل أن يقال (اليمن تكافح الفساد)؟!، تماماً كما وقعنا اتفاقية الشراكة في (مكافحة الإرهاب)، وهاتان الاتفاقيتان كانتا أسوأ عمل قمنا به، ونحن غارقون في أدرانهما..
ففي اتفاقية الفساد وصلنا مرحلة أن الدول المانحة رفضت تقديم دعمها للحكومة وفضلت عنها المنظمات غير الحكومية ففقدنا بموجب ذلك قرارنا وكرامتنا كحكومة وطنية، وفي الثانية مكافحة الإرهاب فقدنا سيادتنا وتمت استباحة اجوائنا وبحارنا تحت ذريعة الشراكة والاتفاق..
وعليه فإن نقل تجارب الآخرين صعب إن لم نكن نحن نملك الإرادة في تغيير واقعنا والاتفاق فيما بيننا وان نحل قضايانا عبر حوار جاد وصادق ووطني بعيداً عن وصاية وتعاليم الآخر وتجاربه، لأنه (ما يحك جلدك مثل ظفرك) وان لم نعد لرشدنا ووعينا ويتحمل كل منا مسؤوليته الوطنية بصدق وأمانة وشرف، فإن أحداً لن يحل مشاكلنا ولن يكون أميناً ولا صادقاً معنا بل سيحلها إن فعل وفقاً لمصالحه سواء أكان الحل جاء برعاية عربية أو دولية..
وأعتقد أننا افشلنا كل النظريات السياسية واسقطنا كل التجارب الإنسانية، وجربنا نظريات (الملحدين) و(الموحدين) و(القوميين) و(العلمانيين) و (الليبراليين)، كما اسقطنا (القبيلة) واعرافها وتقاليدها وقيمها، ولم تنجح معنا لا تجربة ولا نظرية ولا عرف، ولا احتكمنا لا لتعاليم السماء ولا لقوانين أهل الأرض..!
لذا فلنعد لرشدنا ونراجع مواقفنا ولا نسلم رقابنا للآخرين ونتحول مجرد دميات بأيديهم يحركونها حسب الطلب.. إن من السهل أن نعيد ترتيب أوضاعنا لو امتلكنا قرارنا وأمنا بقدراتنا واحترمنا حقوق بعضنا بالشراكة والمواطنة وصناعة الحاضر والمستقبل وتجاوز كل مآسي الماضي.. إن فعلنا ذلك فلا نحتاج أن نتسول أو نستجدي من الآخرين تجاربهم فهذا السلوك فيه الكثير من العيب بحق اليمن الأرض والإنسان والتاريخ والحضارة الموغلة في القدم..
|