حيدر علي ناجي العزي - مرت ستة عقود على اندلاع أقوى وأكبر وأنصع ثورة انسانية شهدها العالم في اليمن عام 1962م.
وإذا كانت الثورة الفرنسية قد تمت تسميتها بأم الثورات وأقدمها وجعلوها منعطفاً تاريخياً وعنواناً مفصلياً للاتنقال من التاريخ الحديث الى التاريخ المعاصر، فان ما صاحبها من قتل وتصفات وإقامة المقاصل لتصفية خصومها ومعارضيهتا بل والأبرياء ايضاً وباسم الثورة ، والتي تحولت الى حملة انتقام، كل ذلك شوه وجه الثورة الفرنسية وأخرجها عن دائرة الانسانية التي اتصفت بها الثورة اليمنية ، والتي لم يصاحبها اي صورة من صور الوحشية , بل كانت ثورة انقاذ من اوضاع متردية لم تشاهدها البشرية حتى في العصور الوسطى .ومع هذا فقد تعرضت الثورة اليمنية لهجمة شرسة مضادة من قبل اعدائها واعوانهم من عتاولة الرجعية والاستعمار، في وقت كانت الحرب الباردة في أوجها، وقد سعى خصوم الثورة للقضاء عليها في مهدها، حتى لا تتحول الى شعلة للتحرر تحرق بقية العروش والطغاة، وقبل ان تنتشر افكارها التحررية في المحيط الاقليمي الرجعي، لكن الثورة افرزت مقاومة من كل فئات الشعب سطروا انصع الصفحات البطولية , للدفاع عن ثورتهم الوليدة وصد الحرب الظالمة التي فرضت عليهم ما يقرب من ثمان سنوات، مولتها السعودية بكل امكاناتها ونفوذها وساعدتها الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا والولايات المتحدة بكل ما لهذه الدول من نفوذ وخبرات واسلحة فتاكة واجهزة ومعدات عسكرية ولوجيستية ومرتزقة وخبراء وفنيين اجانب مدربين. .
واذا كان الوجود المصري قد ساعد احرار اليمن في الدفاع عن ثورتهم فإن انسحاب القوات المصرية قد وضع اليمنيين في اختبار صعب فانتصرت الثورة بكفاح اليمنيين وحدهم .
وسنقف عند هذه النقطة لأهميتها ففيها سنرد على الاعتقاد الخاطئ في السياسة السعودية التي مازالت الى اليوم تتخبط في سياستها وفهمها للشعب اليمني وقوة عزيمته وعنفوانه، فلم يكن لاي سياسة خارجية دور في إملاء مشاريعه او توجهه على اليمن في الماضي والحاضر والمستقبل .
قبل انسحاب المصريين عام 1967م من اليمن كانت السعودية تعتقد بثقة ان النظام المصري هو من فرض ورسخ ووطد النظام الجمهوري, وان اليمنيين ما يزالون يتوقون الى النظام العتيق، وسيلتفون حول النظام البائد بمجرد انسحاب الجيش المصري من اليمن..
وعلى هذا الاساس كان النظام السعودي في جميع المحافل العربية والدولية يطالب بالانسحاب المصري من اليمن وترك اليمنيين يختارون النظام الذي يريدونه بدون تدخل خارجي .
وفي مؤتمر الخرطوم أكد العاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز وبثقة كبيرة التزامه والتزام السعودية بوقف الدعم السعودي المقدم للملكيين واستعداده الفوري للاعتراف بأي نظام يقوم في صنعاء في اليوم الثاني مباشرة لانسحاب الجيش المصري من اليمن، سواءً أكان هذا النظام جمهورياً او ملكياً او اي اسم آخر ولا يعنيها النظام الملكي ما دام الشعب اليمني قد اختار نظاماً اخر.
وبناءً عليه التزم الزعيم عبدالناصر بسحب القوات المصرية وأقر مؤتمر القمة العربي في الخرطوم تشكيل لجنة ثلاثية من المغرب والعراق والسودان برئاسة رئيس وزراء السودان. لتنفيذ الاتفاق..
وقبلها كانت السعودية تسعى في مؤتمر حرض وغيره لجذب الجمهوريين المعتدلين الى قيام دولة اسلامية لا جمهورية ولا ملكية لخلق قناعة بعدم جدوى النظام الجمهوري , كما كانت تدفع القبائل الموالية لها الى التبرم من الوجود المصري والزعيم السلال استعداداً للانقضاض على الثورة.
ولما انسحب الجيش المصري وقامت حركة الخامس من نوفمبر 1967م لإقصاء السلال من المشهد لفتح المجال امام المتبرمين من المصريين والسلال للانضمام الى الصف الوطني الجمهورية خصوصاً وقد تم تصعيد العناصر الوطنية المعتدلة الى السلطة، ومع هذا قلبت السعودية ظهر المجن وضاعفت من دفع المبالغ والدعم العسكري وشراء الولاءات للقضاء على الثورة ولم تعترف بالنظام القائم في صنعاء في اليوم التالي من الانسحاب المصري كما التزمت ولم توقف الدعم المالي والعسكري، فلم يمر اكثر من شهر على الانسحاب المصري من اليمن حتى اطبقت فلول الرجعية على مدينة صنعاء وحاصرتها في شهر رمضان وارتكبت الكثير من الفظائع لمدة سبعين يوماً، اعتقاداً منها ان العقبة الكبيرة لعودة النظام الملكي قد زالت وان الشعب اليمني سيهب فرحاً بعودة النظام البائد الى صنعاء. .
واثبت الشعب اليمني ان النظام الجمهوري قدره ومصيره وان من تنفس الحرية لا يمكنه ان يعود الى عصور الظلام، فتم الدفاع عن صنعاء وطرد الفلول الملكية بدون اي دعم خارجي وتم فك حصار السبعين عن صنعاء . .
ان معاناة الشعب اليمني طوال عقود وقرون لم يكن بالامكان مسحها بوعود كاذبة فقد تغلغلت ثورة سبتمبر في وجدان كل يمني في الشمال والجنوب، فتنامت وتعاظمت المقاومة للدفاع عن صنعاء وهب الشعب اليمني من كل قرية ومن مختلف الشرائح الاجتماعية الشباب والشيوخ وكبار السن ومن التيارات السياسية اليسارية واليمينية واصبح النظام الجمهوري عنواناً ورمزاً وهدفاً للانعتاق من الرجعية في الشمال والاستعمار في الجنوب.
ضخت السعودية وضخت وضخت ولما تعبت وتيقنت وتيقن معها العالم ان الشعب اليمني هو العاشق لثورته والمستميت في سبيل النظام الجمهوري. ولم تكن مصر هي من تريد فرض النظام الجمهوري- بدأت السعودية تسحب يدها من دعم الملكيين وتسحب مرتزقتها الاجانب وتبدأ مشواراً طويلاً من العقبات امام الا عتراف بالنظام الجمهوري صاحبها الكثير من التعنت والشروط والمتاعب التي مازالت تزرعها الى الآن..
وقبل اربعة ايام فقط من موت الزعيم عبدالناصر عام 1970م صرح للقاضي الارياني وهو يودعه في القاهرة عن امتنان مصر حكومة وشعباً لليمنيين على مقاومتهم البطولية حتى انتصر النظام الجمهوري..
وقال عبدالناصر حينها ان الدماء المصرية لم تذهب هدراً والفضل لليمنيين ومقاومتهم التي أدهشت العالم .
اليوم وبعد ستين عاماً على الثورة لا تزال الكثير من العقبات تعترض الثورة.. وهناك اسئلة كثيرة بحاجة الى اجابات وابحاث صحيحة ودقيقة ووثائقية تخرج الثورة اليمنية من دائرة المذكرات والكتب المتناقضة الى دائرة الضوء والوثائق والتوثيق..
وربما حينها ستتجنب اليمن كثيراً من المزالق والتعثرات التي مازالت تعترض طريق الثورة الى اليوم.. وكما قال الشاعر مطهر الارياني:
يا قافلة عاد المراحل طوال
وعاد وجه الليل عابس
|