طه العامري - الحرب التي تخوضها روسيا الاتحادية في أوكرانيا هي ليست ضد الشعب الأوكراني، لكنها حرباً جيوسياسية ذات دوافع اقتصادية وأهداف اخلاقية وغايتها التصدي للغطرسة الإمبريالية وقيم التعالي الاستعمارية التي تمثلها أمريكا التي تسعى لإبقاء هيمنتها ونفوذها على العالم والتعامل معه بعقلية (الكاوبوي) وثقافة رعاة البقر..!
قدر أوكرانيا أن جغرافيتها قد اختيرت لتكون ساحة المواجهة، كما هو قدر روسيا الاتحادية أن تتولى مهمة التصدي للغطرسة الإمبريالية والثقافة الاستعمارية التي تريد أمريكا الإبقاء عليها لتتمكن من إبقاء سيطرتها على العالم والتحكم بمصيره وتشكيله وفقاً لرغباتها وبما يكفل تحقيق مصالحها الاستراتيجية والجيوسياسية..!
إن أمريكا لا تعنيها القيم الإنسانية ولا تكترث بها ولا تؤمن إطلاقاً بكل ما هو أخلاقي او إنساني أو حضاري، فهي دولة رأسمالية بلغت مرحلة الإمبريالية، وهي مرحلة صورها الروائي الانجليزي وليم شكسبير في روايته الشهيرة (تاجر البندقية) من خلال دور المرابي (اليهودي شايلوك) الذي أصر على اقتطاع جزء من مؤخرة احد المديونين له مقابل الدين الذي عليه رافضاً الاستماع لآراء المجتمع أو الامتثال لصوت راعي الكنيسة..؟!
أمريكا _اليوم _هي ذاك (المرابي شايلوك) وهي تخوض حرباً ضد روسيا والعالم بأوكرانيا وأوروبا بعد أن أخفقت في الاستحواذ على ثروات روسيا أو السيطرة عليها وبعد أن استنفدت أمريكا كل الوسائل والسبل للسيطرة على ثروات روسيا وتطويعها أو إبقائها كما كانت عليه في عهد الرئيس (بوريس يلسن) الذي كانت امريكا وكل الغرب معجبين به وبتحضره وانتمائه للعالم الحر..؟!
نعلم جميعاً أنه وعقب تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال روسيا وتنصيب (يلسن) رئيسا لها، هرولت أمريكا والغرب للسيطرة على كل المنشأة السوفييتية ومنها شركة(غاز بروم) التي دخلتها شركات النفط الأمريكية والغربية مثل (شل، وبي بي) وشركات أخرى وأصبحت شركة مساهمة، لكن فرحة الغرب وأمريكا لم تتم بصعود الرئيس فلاديمير بوتن وتسلمه رئاسة الدولة، ليعمل بجد على إعادة بناء روسيا الاتحادية وفق القيم والمعتقدات الوطنية، والقومية والأخلاقية التي تؤصل لهذه الدولة ومجتمعها.. وكانت مشاريع تحديث قطاع النفط والغاز والثروات السيادية لروسيا الاتحادية مصدر قلق بل وغضب لواشنطن التي وضعت نصب عينيها تدمير القدرات الاقتصادية لروسيا الاتحادية، أن لم تتمكن من السيطرة عليها أو تطويعها..!
كان التكامل النفطي الروسي _الأوروبي محل غضب واشنطن التي ومنذ زمن (بوش) الأب ثم بوش الابن وهي تخطط لعزل الطاقة الروسية عن أوروبا التي كانت تتمتع بالطاقة الواردة من روسيا وبأسعار زهيدة حتى أن كثيرين من النخب الروسية كانوا يتساءلون عن سر تزويد أوروبا بالطاقة الروسية وبطريقة شبه مجانية، وكانت أوروبا تنعم وتعيش في حالة استرخاء بفضل الطاقة الواردة من روسيا الاتحادية..
في المقابل كانت امريكا ومؤسساتها يخططون لكيفية فصل الطاقة الروسية عن أوروبا، أولا لحرمان روسيا من موارد الطاقة حتى لا تقوى اقتصادها وقدراتها، وثانياً لحرمان أوروبا من الطاقة الروسية الرخيصة واستبدالها بالطاقة الأمريكية مرتفعة الثمن، وكي تبقى أوروبا في حالة تبعية كاملة ومطلقة لأمريكا وان لا تحاول أوروبا الاستقوي على أمريكا أو التعامل الندي معها، بل بنظر أمريكا يجب أن تبقى أوروبا تحت وصايتها وحمايتها..
تحدثت كونداليزا رايس عام 2014م عن (أهمية إعادة هيكلة خطوط الغاز الرابطة بين روسيا وأوروبا، حتى تتحرر أوروبا من الطاقة الروسية، متحدثة عن البديل لأوروبا وهي الطاقة من شمال أمريكا)..
تذكروا حديث رايس وزيرة خارجية أمريكا كان في عام 2014م وكان المخطط الأمريكي لتحقيق هذه الغاية هو البدء في إحداث انقلاب في أوكرانيا يزيح النظام المنتخب ديمقراطياً من قبل الشعب بآخر جاءت به المخابرات الأمريكية، ليبدأ على إثر ذلك استهداف مواطني الدونباس وممارسات كل أشكال العنصرية بحقهم لاستفزاز روسيا الاتحادية ومن ثم استئنزافها أن حاولت الدفاع عن مواطنيها في الدونباس، لكن روسيا أسقطت عام 2015م هذه الذريعة باتفاق (مينسك) وهو الاتفاق الذي راوغت سلطات أوكرانيا في تطبيقه والالتزام بنصوصه نزولا عند رغبة أمريكا فيما تم تنصيب نجل الرئيس الأمريكي (بايدن) كمسؤل عن قطاع الطاقة في أوكرانيا منذ عام 2014م..
في ذات السياق قال الرئيس الأمريكي وقبل بدء العملية العسكرية في أوكرانيا (إذا هاجم بوتن أوكرانيا سندمر أنابيب نقل الغاز الروسي لأوروبا)؟!
على مدى ثلاثة عقود تقريبا حاولت واشنطن وبكل الوسائل السيطرة على الثروات الروسية وكذا تقليص قدراتها الاقتصادية، والحد من تطور وتقدم روسيا وبشتي الوسائل، وسخرت أمريكا وبريطانيا تحديدا كل قدراتهما السرية والعلنية لتحجيم قدرات روسيا ووضع العوائق والعراقيل أمام تقدمها، ولكن روسيا مضت بخطوات ثابته نحو أهدافها محققة أحلامها في التقدم وتنمية القدرات وعلى مختلف الجوانب..
لذا لم يكن رد الفعل الأمريكي _الغربي غريبا تجاه روسيا مع بدء العملية العسكرية الروسية في الدونباس وهي العملية التي جاءت بمثابة (آخر العلاج) بعد إفشال أمريكا لكل محاولات روسيا في إيجاد تفاهمات مع نظام (كييف) الذي تشكل منذ عام 2014 م على يد خبراء المخابرات الأمريكية والبنتاجون وفق عقيدة نازية متوحشة ومن عناصر نازية ذات جذور بنازيي الحرب العالمية الثانية، إذ أن غالبية قادة ومسؤولي أوكرانيا اليوم هم أحفاد لرموز نازية قاتلت إلى جانب النازيين الألمان ضد الجيش السوفييتي وخاصة من ينتمون لغرب أوكرانيا..!
وكما فعلت واشنطن في العديد من دول العالم التي أسقطت أنظمتها ونصبت بديلا عنها جماعات حاقدة ومتطرفة لم تأتِ لتحكم بل أتت لتنتقم من شعوبها..؟!
وهذا ما حدث ويحدث في أوكرانيا حيث تم تنصيب نظام نازي لم يأتِ ليحكم بالعدل ويراعي حقوق مواطنيه بل جاء لينتقم من جزء كبير من الشعب ويثأر لاجداده النازيين فكانوا سلاحاً اجتماعياً بيد أمريكا التي راحت تدعمهم باسم الدفاع عن سيادة أوكرانيا..؟!
بيد أن المتابع لوسائل الإعلام الغربية والأمريكية ومن ينساق خلف خطابهم من بعض الوسائل العربية، يشعر بكثير من الازدراء لهذا الانحطاط المهني والأخلاقي الذي انحدرت إليه هذه الوسائل خلال تعاطيها مع العملية العسكرية الروسية، ويزداد المتابع والمتلقي ازدراء من تصريحات المسئولين الأمريكيين والغربيين الذين بلغت للأسف (وقاحتهم) حد السخرية من عقول الناس حين يتحدثون عن هذه العملية العسكرية ويصورون عصابة (كييف) وكأنهم يمتلكون قدرات الجيش الأحمر السوفييتي الذي صنع انتصار الحرب الكونية الثانية.
والمؤسف أن العقلية الأمريكية والغربية تنظر للعملية العسكرية من منظارها المتوحش، ولا ينظرون للقيم الأخلاقية التي يتحلى بها الجيش الروسي، إذ ترى أمريكا طول فترة العملية الروسية وكأنها (عجز وهزيمة للجيش الروسي) ولا ترى أن عقيدة هذا الجيش لا يمكن مقارنتها بعقيدة التوحش التي يؤمن بها الجيش الأمريكي وأمثاله في الغرب الذين دمروا بلداناً ومدناً على رؤوس سكانها في سبيل السيطرة عليها، وهذا السلوك ليس من أخلاقيات الجيش الروسي القادر على دخول كييف بساعات لو اعتمد العقيدة الأمريكية الغربية، لكنه لا يريد ذلك ولا يستهدف الشعب الأوكراني بل يستهدف عصابة خطفت أوكرانيا وشعبها ووضعتهم في خدمة المخططات الأمريكية القذرة، وهذه العصابة التي تحكم كييف سخرت لها أمريكا والغرب كل قدراتهما في الأرض والسماء من أقمار صناعية وأجهزة تجسس وشبكات النت والتواصل الاجتماعي وقدرات عسكرية ومادية ودعم لوجيستي وكل ما يعرفه العالم من إجراءات اتخذتها أمريكا والغرب ضد روسيا الاتحادية، والأكثر وقاحة أن يأتي وزير خارجية أمريكا ليهدد (الأفراد والجماعات والدول والأنظمة وكل من يتعامل مع روسيا) ويتوعد الجميع بالعقاب الأمريكي..؟!
هل هذا منطق دبلوماسي يقود الدبلوماسية لدولة تزعم أنها (دولة عظمى)؟!
دولة تزعم أنها راعية الحقوق والحريات لشعوب العالم؟!
تطلق تهديداتها ضد شعوب وأنظمة العالم، وتطلب منهم الامتناع عن التعامل مع روسيا بعد أن فشلت كل إجراءاتها الانتقامية من دولة روسيا الاتحادية التي سوف تنتصر حتماً لأن هناك دعوات تبتهل لله وبكل اللغات ومن مختلف الأديان والمعتقدات، وكل هؤلاء يطلبون النصر لروسيا الاتحادية التي تخوض حرباً عادلة هدفها تخليص العالم من هيمنة وغطرسة (رعاة البقر)..
ameritaha@gmail.com
|