زياد غصن - ما الَّذي ينتظر المنطقة العربية؟ سؤال يشغل بال دوائر القرار السياسي العربي بقدر ما يحظى باهتمام على المستوى الشعبي، وخصوصاً مع شيوع عوامل الإحباط وفقدان الأمل لدى مواطني عدد من الدول العربية التي تمر منذ عدة سنوات بأزمات خاصة وتعاني انسداداً في آفق حلها، فضلاً عن المتغيرات المتلاحقة على الصعيدين السياسي والاقتصادي إقليمياً ودولياً، والتي لم يكن بعضها متوقعاً، على الأقل لدى شريحة من السياسيين والمؤسسات الرسمية.
الإجابة عن السؤال السابق ستكون متسرعة فيما لو اعتمدت على توقع مسار معيَّن، فالأحداث التي تشهدها المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي والدولي ليست واضحة إلى درجة معرفة مآلها الختامي، كما أنَّ تعدد اللاعبين الإقليمين والدوليين وتباين سياساتهم وحساباتهم يجعل إمكانية استشراف تطور ما أو التنبؤ به أمراً محاطاً بشكوك كثيرة، سواء كان ذلك متوافقاً مع الأمنيات العربية أو متعاكساً معها.
العوامل الحاكمة
يرى البعض أنَّ المنطقة العربية لم تشهد ظروفاً كتلك التي تشهدها اليوم، وهو محق في ذلك لجهة طبيعة وحجم التدخل الخارجي في الشؤون العربية الداخلية وحجمها، ودخول بقع جغرافية جديدة في خانة الأراضي العربية المحتلَّة من قبل قوى خارجية، والأزمات الاقتصادية الخانقة التي تعصف بدول عربية أساسية، والنزاعات البينية العربية-العربية التي وصلت حد التدخل العسكري المباشر، وتراجع التعاون البيني العربي في مختلف المجالات، والتغلغل الإسرائيلي ونجاحه في اختراق جدار المقاطعة العربية، وغير ذلك، لكن ما الجديد في ذلك، فهذه هي حال الدول العربية منذ استقلالها وما قبل، وإن اختلفت التواريخ والمعطيات والأسماء؟
بصرف النظر عن صواب أي من تقييمات الظروف العربية الراهنة، فإنَّ استشراف ما ستحمله الأيام القادمة للمنطقة العربية سيكون متأثراً بتطورات عدة عوامل يمكن استعراضها باختصار في السطور التالية:
- السياسة الأميركية في التعامل مع قضايا المنطقة الرئيسية التي باتت في ظل التطورات التي شهدها العقد الثاني من القرن الحالي قضايا كثيرة ومتشعبة، ولا يمكن تفضيل واحدة عن أخرى بالنظر إلى تأثير مجريات أحداثها في الأمن العربي. مثلاً، لا يمكن القول إن الحرب في اليمن أو الأزمة السياسية في العراق أو الوضع العام في السودان أقل أولوية من الأزمة السورية أو الأزمة اللبنانية.
لكن يبقى تعاطي الإدارة الأميركية مع تطورات القضية الفلسطينية خصوصاً، ومع الصراع العربي الصهيوني عموماً، بمنزلة الدالة التي تقود المرء إلى استشراف صحيح للموقف الأميركي من قضايا المنطقة عموماً، إذ لا يمكن توقع أن تكون الإدارة الأميركية متعاونة في إيجاد مخرج للأزمة السورية، وهي لا تزال ثابتة في مواقفها المؤيدة والداعمة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً للكيان الصهيوني في مشروعه العدواني والاستيطاني، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حرب اليمن والأزمة العراقية وغيرها
ما سبق يدفع نحو طرح سؤال يتجدد في كل مرحلة: ماذا تريد الولايات المتحدة من المنطقة العربية؟ ومن خلق كل هذه البؤر المتفجرة؟ ومن يحرص على استمراريتها؟ وإلى جانب الحقيقة التي جعلت منها العقود الطويلة السابقة واحدة من أهم بديهيات ثوابت السياسة الأميركية الداخلية والخارجية، المتمثلة بأمن الكيان الصهيوني، وما يتطلَّبه ذلك من تفتيت لقوى المحيط العربي وتدمير لقواه الذاتية وإمكانياته، فإن الاستنتاج العالمي الأخير بأن لا غنى عن الوقود الأحفوري في مجال توليد الطاقة، وما أفرزته الحرب الأوكرانية من تأكيد مكانة وأهمية النفط والغاز في ميزان القوى العالمية، يدفعان الولايات المتحدة إلى تثبيت حضورها في المنطقة ومحاولة استعادة سيطرتها على منابع النفط وتجارته والتحكم في إمداداته نحو السوق العالمية، وخصوصاً بعد التحولات التي طرأت على السياسة السعودية في هذا الملف، والتي جاءت مناقضة تماماً للرغبة الأميركية بزيادة الإنتاج وزيادة المعروض النفطي في الأسواق العالمية.
لذلك، علينا أن نتوقع الأسوأ في المقاربة الأميركية لقضايا المنطقة، فهي لن تكون عاملاً مساعداً على حلها والتخفيف من تأثيراتها، بل ستكون سبباً في تأجيجها واستمراريتها.. وهنا تتساوى المصالح السياسية مع الأهداف الاقتصادية لواشنطن من حيث الأولوية والدوافع.
- العامل الإسرائيلي الذي يحظى بالأهمية نفسها التي يحظى بها الموقف الأميركي. هنا، يمكن قراءة الدور الإسرائيلي من خلال تطورات مسارين: الأوَّل يتعلق بالمحطة القادمة التي يمكن أن يصل إليها قطار التطبيع الذي انطلق في رحلته العلانية منذ نحو عامين، والذي سيكون له تأثيراته المباشرة في علاقات الدول العربية بين بعضها البعض، وإلزام الكيان الصهيوني بتنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، واستقرار بعض الدول العربية سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
أما المسار الثاني، فيتمثل بالتدخل الإسرائيلي التخريبي المستمر في الشؤون الداخلية للدول العربية والاعتداءات المباشرة على بعض الدول، وما يمكن أن ينجم عنها مستقبلاً من انزلاق المنطقة نحو حرب محدودة أو واسعة النطاق. وعلى مدار العقود التي أعقبت نكبة فلسطين في العام 1948م، أثبتت الأحداث أن الوجود الصهيوني في المنطقة ليس سوى عامل مسبب ومؤجج للحروب والأزمات والتوتر.
- مستقبل الصراع الأميركي مع كل من روسيا والصين، والذي يتجه حكماً نحو مزيد من التعمق والتوسع خلال الفترة القريبة القادمة. وكما انعكست التأثيرات السلبية للمواجهة المباشرة أو غير المباشرة بين موسكو وواشنطن في أوكرانيا في عموم الأسواق العالمية، ومنها العربية بالطبع، ففي المواجهة القادمة بين واشنطن وبكين، التي ستكون مواجهة اقتصادية بالعموم، وإن جرى استخدام القوة العسكرية لأغراض استعراضية في بعض المراحل وضمن نطاق ضيق، ستكون المنطقة العربية عرضة لتأثيرات سلبية مباشرة، سواء بفعل علاقات دولها مع الدولتين في مختلف المجالات أو نتيجة الاضطرابات التي ستعم الأسواق العالمية، فضلاً عن الضغوط التي ستمارس على الدول العربية المنتجة للنفط والغاز بغية زيادة صادراتها من المادتين أو خفضها.
- حدود وطبيعة الدور الإقليمي لبعض الدول غير العربية المجاورة للمنطقة. هذا الدور، كما يعلم الجميع، وصل إلى حد التدخل العسكري والسياسي المباشر في بعض الدول العربية في الجزء الآسيوي أو الأفريقي
وبناءً عليه، لا يمكن استشراف مستقبل المنطقة العربية من دون الأخذ بعين الاعتبار تأثيرات هذا الدور ومراميه على المديين المتوسط والبعيد؛ فالوجود التركي في ليبيا لا يمكن التعامل معه على أنه حدث مؤقّت مرتبط باستقرار الأوضاع السياسية في ليبيا أو استمرار حزب العدالة والتنمية في الحكم، فهو يعكس إلى حد كبير تعويل بعض القوى السياسية الليبية على القوى الإقليمية، ويعكس أيضاً البعد التوسعي الخارجي لأنقرة، ويبدو أنه لن يكون هناك حزب تركي مستعد للتراجع عنه مستقبلاً سياسياً أو حتى عسكرياً، والدليل على ذلك هو استمرار الوجود التركي في جزء من الأراضي القبرصية منذ أكثر من 4 عقود، والحال نفسه بالنسبة إلى احتلال تركيا بعض الأراضي السورية.
- ما ستؤول إليه الإصلاحات السياسية والاقتصادية العربية التي يجري الحديث عنها منذ سنوات في عدد من الدول العربية، إضافةً إلى المطالبات الشعبية بتحقيق مثل هذه الإصلاحات في دول عربية أخرى، ومآل الأزمات الاقتصادية العربية التي تقدم البيانات والأرقام الإحصائية صورة قاتمة لها.
على سبيل المثال، تتخطّى ديون الدول العربية الخارجية اليوم عتبة 1.5 تريليون دولار، وهناك 10 دول عربية تتراوح معدلات الفقر فيها بين 16٪ إلى 90٪، فما يجري في مصر أو السعودية أو لبنان أو العراق أو السودان وغيرها لا يمكن حصر نتائجه بالحيّز الجغرافي لهذه الدولة أو تلك، ولأسباب كثيرة.
وكما أنَّ الأزمات التي اندلعت مع بداية العقد الثاني تعدَّت تداعياتها السلبية حدود دولها لتصل إلى الإقليم كاملاً، فإنَّ الإجراءات والمشروعات السياسية التي تسير عليها بعض الدول والأزمات الاقتصادية التي تئن منها سيكون لها الأثر نفسه.
- مصير الصدام العربي المباشر القائم حالياً علانية أو بشكل مستتر، بدءاً من الحرب اليمنية إلى الأزمة السورية، فالليبية والصومالية واللبنانية والعراقية وغيرها. وتالياً، فإنَّ انتصار محور على آخر يعني أن المنطقة ستكون قريبة في مواقف دولها وخياراتها وعلاقاتها من تركيبة المحور المنتصر.
هنا، علينا أن نقارن بين أجندة كل محور وتوجّهاته ومشروعاته السياسية، لكن تقدم محور على آخر ليس الخيار الوحيد المتاح، فالفرصة لا تزال سانحة لتحقيق توافق عربي حول جميع القضايا البينية والإقليمية.
ومع أنَّ قمة الجزائر كانت يمكن أن تشكّل مناسبة للسير في طريق بلورة بعض من ملامح ذلك التوافق، إلا أنَّ الضغوط الخارجية أدت دوراً مفصلياً في إفشاله، والمثال على ذلك هو التوافق العربي على عودة سوريا لشغل مقعدها في الجامعة العربية، ثم عزوف بعض الدول عن موقفها المؤيد لذلك وتفضيلها التريث، والسبب هو الضغوط الأميركية، كما هو معروف.
مزيد من الإحباط والتشرذم
كلّ هذه العوامل وغيرها تجعل التنبؤ بملامح مستقبل المنطقة العربية ينحو باتجاه التشاؤم والإحباط والتشرذم، إذ لا تؤشر تطورات أي من العوامل السابقة إلى أن هناك أشياء إيجابية يمكن أن تحدث خلال الفترة القادمة، بل إن الأجواء العامة تشي بمزيد من التعقيدات والصدامات على حساب المصالح العربية.
للأسف، فإنّ وجود بعض المقومات التي يمكن أن تشكّل رافعة لعمل عربي مشترك تبقى عرضة للحسابات والمصالح السياسية للحكومات والأنظمة. والنتيجة أنَّ معظم الدول العربية سيكون خيارها محاولة الخلاص الفردي أو تجنب القدر المتاح من الأضرار والخسائر، ولو كان ذلك على حساب دول عربية أخرى.
|