استطلاع/ جمال الورد - يعاني المغترب اليمني في بلاد الاغتراب ومنها السعودية، من صعوبات شتَّى، ففي "بلاد الغربة" ينظر إلى وطنه الممزَّق الذي أصبحت العودة إليه أشبه بالانتحار، وينظر إلى مستقبله المجهول في عمل لم يعد يكفي مردوده المالي لتوفير الحد الأدنى من المصروفات الشخصية والأسرية، في ظل ركود غير مسبوق في الأعمال الإنشائية في المملكة والتضييق بالقرارات (سَعْوَدة الأعمال) التي استهدفت كثيراً من المهن والأعمال التي كان يعمل فيها المغترب اليمني، واضطرار المغترب لدفع جلّ ماله للكفيل ولمكتب العمل، وبدائل الصحة والترفيه، لتتضاعف بذلك معاناته وتآكل مدخوله الذي صار أغلبه يذهب في إيجار سكنه وأكله وشربه ومواصلاته.
وعلاوة كل ذلك تتعامل السلطات السعودية مع العمالة اليمنية بحساسية مفرطة منذ بداية العام الحالي تحديداً، وأيّ خطأ مهما كان بسيطاً وأي مخالفة بقوانين الإقامة والتجديد، يعني الترحيلَ الفوري، حيث يقوم مكتب العمل بقص الإقامة مباشرة وترحيل المقيم اليمني دون أي مراعاة إنسانية ولحق الجوار.
ركود الأعمال وتضييق مستمر
يؤكد الكثير من المغتربين في السعودية على حالة ركود غير مسبوقة في الأعمال سواء اليدوية (المهنية) أو الأعمال براتب شهري، فقد أصبحت (العزب) - سكن يتجمع فيه العمال - ممتلئة بالناس، ولا وجود لأعمال كما كانت عليه في السابق.
وبهذا الصدد يتحدث لـ "الميثاق" محمود قاسم - 38 عام - أحد المرحلين من السعودية في مطلع سبتمبر 2022م، إنه اغترب في السعودية منذ 15 عاماً، وكان يعمل في مجال "الدهان"، إلا أنه في السنوات الأخيرة لم تعد الأعمال كما كانت عليه في السابق، وكذلك لم تعد أسعار العمل مجدية في ظل ارتفاع اسعار المعيشة وتكاليف تجديد الإقامة، الأمر الذي جعله يتخلف عن تجديد إقامته لمدة عام.
وأضاف: "تخيل أخي أنك تشتغل سنة كاملة ولا تستطيع توفير مبلغ 10500 ريال سعودي لتجدد إقامتك، وهذا المبلغ طبعاً فوق طاقة المغترب، حيث إن التجديد كان في 2007م بمبلغ 1500ريال فقط، فانظر إلى الفرق والزيادة، وفوق ذلك معيشة غالية ارتفعت الأسعار 200٪ في مختلف السلع، لهذا تشتغل عاماً كاملاً وتجد نفسك في نهاية الأمر محاصراً بمطالبة التجديد، أو العيش متخفياً من الجوازات ومكتب العمل، بسبب إما اضافة غرامات تأخير، أو الترحيل المباشر، كما حدث معي من محافظة جدة".
ونتيجة لحجم التضييق الكبير الذي طال اليمنيين في السعودية، سواء عبر سعودة الكثير من القطاعات، أو فرض ضرائب ورسوم كبيرة عليهم، اضطرت أسرة علي الكمال للعودة إلى اليمن بعد أن عاشوا في المدينة المنورة لأكثر من أربعة عقود.
وذكر الكمال لـ"الميثاق" أنه سافر شاباً قبل 43 عاماً، وتزوج من امرأة يمنية من مواليد السعودية، وعاش في السعودية هو وزوجته وأبناؤهم طوال حياته.
واستطرد: وجدت نفسي مضطراً للرجوع إلى بلادي التي أجهل مدنها، وهو ما لم أكن أتوقع أن يحدث ذات يوم، فقد كنت اعمل في إحدى المطابع السعودية في المدينة، ولكن في 2018م تم الاستغناء عنا بسبب السعودة في التخصص الذي كنت أعمل فيه، فاشتغلت في سوبر ماركت إلا أنه أيضاً تم سعودة هذا المجال من خلال فرض موظف سعودي الى جوار أي أجنبي يشغله صاحب العمل، فتضاءل الراتب ولم يعد بمقدوري دفع الرسوم الكثيرة المفروضة على المغتربين.
وأكد أنه لا يملك حتى منزله الخاص باليمن، ولا يعلم الظروف التي قد يواجهها بسبب نمط العيش المختلف، مشيرا إلى أن مغادرته المملكة بهذه الطريقة خلق في نفسه أثراً بالغاً، بعد أن كان قد اعتبرها كوطنه.
استغلال من الكفيل
"يعاني المغترب اليمني من عنصرية بعض مواطني السعودية، زادت حدتها خلال السنوات الأخيرة بسبب الحرب التي تشهدها البلاد، ويتلقى العامل اليمني شتى أنواع الشتائم من قبل بعض السعوديين، ناهيك عن أن الكفيل يعامل المغترب معاملة العبد"، يقول أدهم عبد الواحد، معبراً عن قناعة يتبناها العديد من اليمنيين المغتربين في السعودية.
دخل أدهم السعودية في نهاية 2014، آملاً أن يحصل على وظيفة معلم لمادة اللغة الإنجليزية في إحدى المدارس، فهو تخرج من كلية الآداب بجامعة صنعاء، لكن الحظ لم يحالفه، فعمل في العديد من المهن الشاقة، في بيع الطلاء، في البناء وفي محل لبيع الحلويات، ليستقر به المقام بعد سنوات من المعاناة، في محل لبيع الأفران والأدوات المنزلية، تمتلكة مواطنة سعودية ويديره أخوها الذي لا يجيد سوى العجرفة بحق العمال.
يقول أدهم: "منذ أن دخلتُ السعودية قبل ثماني سنوات سافرت الى اليمن مرتين فقط، فمع الخوف من فقدان العمل، ناهيك عن احتياجات الأسرة، وأيضاً ما يجب دفعه لتجديد الإقامة سنوياً يزيد عن عشرة آلاف ريال سعودي، بينما الراتب لا يتعدى 2500 ريال سعودي، كل تلك الأمور صارت تعيق عودتي إلى اليمن".
يشتاق أدهم لطفليه كثيراً، لكنه يحاول أن يعوض غيابه الطويل بالتواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي معهما بشكل دائم.
من جانبه يفيد بدران المحمدي - 27 عاماً- بأنه ونتيجة للوضع الذي تمر به اليمن، أضطر إلى أن يبيع ذهب زوجته ويشتري فيزة عمل للسعودية، وقال: كنت أتوقع أنني سأجد عملاً في أي مجال لأنني فعلاً محتاج للعمل، إلا أنه مر عليّ منذ دخلت السعودية أكثر من 4 أشهر وللأسف لم أجد عملاً، والكفيل في الأساس لا يملك مؤسسة عمل فهو يتاجر بالفيز، ومجرد أن تصل للسعودية يعطيك مهلة 6 شهور تنقل من مؤسسته حتى يتمكن من طلب استقدام أناس آخرين ويبيع الفيز وهكذا".
وأضاف: "بحثت وما زلت أبحث، وكل ما وجدته هو أعمال براتب لا يتعدى مبلغ 2000ريال سعودي في الشهر، بدون تأمين للسكن أو المأكل والمشرب، فقط 2000ريال وأنت دبر حالك، علاوة على ذلك لا تستطيع أن تشتغل لدى من وجدت عنده العمل إلا بعد أن تنقل فيزتك عليه، والنقل يكلف مبلغ 3000ريال، وفي حال غامرت واشتغلت دون نقل فلن تنجو من حملات مكتب العمل أو الجوازات فلو ألقي القبض عليك وأنت تعمل عند غير كفيلك يتم ترحيلك مباشرة".
"النجار المسلح" مصطفى مسيك، الذي ينحدر من مديرية بيت الفقيه في محافظة الحديدة، فقد كان يمتلك إقامة مدوّناً عليها "مهنة سائق خاص"، وهي واحدة من المهن التي تدرج السلطات السعودية حاملها ضمن العمالة السائبة، وتلزمه بالعمل لدى كفيله، وتحظر عليه مزاولة أي نشاط آخر.
وتنفّذ السلطات السعودية، بين حين وآخر، حملات ضد العمالة المخالفة، وتحتجزهم لأيام، وتقوم بتغريمهم، ومن ثم ترحيلهم إلى بلدانهم، الأمر الذي كان يجبر مصطفى على البقاء في مسكنه لأسابيع، والتوقّف عن العمل، خشية وقوعه في مصيدة تلك الحملات، وآخرها الحملة القائمة حالياً في الرياض والتي بدأت منذ 9 نوفمبر 2022م.
يجد اليوم صعوبة في إيجاد عمل في المجال الذي يبرع فيه، نظراً لعدم قدرته على العمل بسبب ملاحقات الأمن ومكتب العمل السعودي خصوصاً وأن عمله دوماً في اماكن مكشوفة لا يستطيع الاختباء فيها، وكل ما يقوم به من اعمال حالياً غير مهنته الاصلية غير كافٍ للانفاق على عائلته الصغيرة ووالدته وعدد من أشقائه وشقيقاته اليتامى.
وبسبب ارتفاع تكاليف التجديد يضطر اليمنيون لشراء فيز كـ "سائق خاص، وعامل منزل" لأن تجديدها رخيص نسبياً، الأمر الذي جعل السلطات السعودية تقوم مؤخراً بترحيل مئات المغتربين اليمنيين بحُجة مخالفتهم قوانين العمل، كما اتخذت بعض المؤسسات والكفلاء السعوديون قرار الخروج النهائي بحق عشرات المكفولين لديها، بفعل حظر القانون السعودي عليها مواصلة كفالتهم.
مخاطر ونهاية مؤسفة
محمد سعيد (42 عاماً) عاد، في فبراير الماضي، من السعودية بعد أن ملَّ البقاء والعمل فيها، إلى جانب تلقيه، مع 49 يمنياً يعملون في مكة، إشعاراً من كفيلهم السعودي، يخيّرهم بين البحث عن كفيل آخر خلال شهر أو الخروج النهائي.
لم يستطع سعيد، بعد غربة استمرت عشر سنوات زاول فيها العديد من الأشغال الشاقة، إيجاد كفيل آخر، وتغيير مهنته من عامل منزلي إلى أخرى، فاختار مغادرة السعودية، لتزايد المضايقات والقيود والمعاناة والصعوبات، وتحوّل الغربة إلى جحيم.
لم يعد يجد اليوم فارقاً بين حجم البؤس والشقاء في السعودية وداخل بلاده، التي عاد إليها، واشترى سيارة (هايلوكس) لينقل بها الركاب، ويستفيد من عائداتها المتواضعة في الإنفاق على زوجته وأطفاله، إضافة إلى والدته ووالده المسنَين.
ويختلف الأمر قليلاً بالنسبة لعيسى محمد (39 عاماً) وصادق علي (47 عاماً)، اللذين جاءت عودتهما بعد 7 سنوات من الاغتراب بطريقة قانونية، مضافاً إليها ثلاث سنوات من التخفي والتواري عن أنظار أجهزة الأمن السعودية، وذلك لانتهاء مدة إقامتيهما، وعجزهما عن دفع التكاليف الباهظة لتجديدهما.
دفعهما ذلك، قبيل عدة أشهر، للعودة إلى البلاد عن طريق التهريب، وتكبّدا عناء رحلة العودة الخطرة لعدة أيام، وفضّلا ذلك على البقاء رهن الخوف والترقّب وخشية الوقوع بيد السلطات السعودية، التي ستلزمهما -في حال ضبطهما- بدفع كافة الرسوم والغرامات المستحقة عليهما، وهو ما يعجزان عنه.
وخلال العام الحالي والأعوام الماضية تزايدت حالات الانتحار من قبل المغتربين اليمنيين كان آخرها في مطلع نوفمبر الحالي، حين اقدم مغترب يمني على شنق نفسه حتى الموت بسبب عدم تمكنه من ايجاد عمل والالتزامات الاسرية التي يتحملها تجاه اسرته في اليمن.
ويوماً بعد آخر يتحمّل المواطن اليمني صعوبات شتى، ويستدين المال لشراء التأشيرة حتى يغترب بالسعودية على أمل تحقيق عيش كريم له ولأسرته، ولكن بعد تحمل الصعوبات يصطدم بواقع مؤلم، أصعب من الواقع الذي يعيشه في بلده، حيث إن المال الذي يصله من عمله يذهب الجزء الأكبر منه للكفيل السعودي، والجزء الآخر لتسديد رسوم الإقامة، غير الغرامات التي تواجهه هناك في أي مخالفة وأيضاً رسوم مكتب العمل والتأمين الصحي.
وما يزيد من معاناتهم، أن الكثير منهم باع كل ما لديه في اليمن من أجل شراء تأشيرة عمل لدخول المملكة، ولم يحققوا أي إنجازات أو أرباح بسبب سعودة الوظائف.
وترى الرياض أن قرارها بسَعْودة الأعمال يعتبر صائباً، حيث جاء نتيجة لارتفاع نسبة البطالة في المملكة، وقد اتخذت هذا القرار مع جميع العمالة الوافدة وليس مع اليمنيين فقط، إلا أن المغتربين اليمنيين يؤكدون أن ما تمر به اليمن يدعو المملكة إلى ضرورة تعاونها في تحسين أوضاعهم من خلال تقديم التسهيلات لهم، واستثنائهم من دفع تكاليف الإقامة والرسوم المفروضة عليهم، ومعالجة مشاكلهم ومشاكل أولادهم.
|