د. عبدالوهاب الروحاني - منذ بداياتنا الصغيرة للوعي بالعمل السياسي والثقافي، كنا نسمع ونقرأ عن النخب الثقافية، والاجتماعية، والسياسية وكانت تقفز الى الذاكرة مباشرة مجموعة أسماء مثقفة، ومتعلمة ومؤهلة، لها دراية بشئون الحكم والدولة والمجتمع.
من بين هذه الاسماء التي يروق لي الحديث عنها اليوم في ذكرى الرحيل العشرين، مناضل جمهوري، قاتل في مواقع البطولة والشرف، وعمل في مراحل وأزمنة ومواقع مختلفة .. نهض بواجبه الوطني وأبدع في الميدان، منطلقاً من قاعدة ثقافية حداثية، ووعي معاصر ساهم في رسم لوحة جديدة لحياة اليمنيين.
اللواء يحيى المتوكل، ومن لا يعرفه أو يسمع او يقرأ عنه.. كان يؤمن بأن الشعب والوطن ملهمه وسيده، ويدرك ان مهمة الوطنيين الشرفاء تكمن في خدمته، والنضال من أجله وتحقيق العدالة والمساواة بين الناس، وضمان حقوق وحريات المجتمع بكل اطيافه واعراقه وفئاته..
ذلك لأن غاية الثورة التي شارك في إذكاء جذوتها والانتصار لارادتها، كانت في القضاء على الظلم والقهر والاستبداد، وكانت في صناعة حياة جديدة معاصرة، يسودها التعايش، والمحبة والعدل والسلام.
منذ عرفته:
في إب كانت بداية معرفتي الشخصية بالاستاذ يحيى المتوكل، حضرت مجلسه.. حيث كان ملتقى النخبة السياسية والاجتماعية في المحافظة، والمحطة المؤنسة لنقاشات السياسيين والمثققين القادمين من صنعاء وتعز ..
منذ عرفت اللواء يحيى المتوكل لم أنقطع عنه حتى هزني خبر "حادث لحج" المفجع الذي قضى فيه، وحرصت حينها (وكنت في عدن) على زيارته ورفيق نضاله عزالدين المؤذن في المستشفى، الذي أُسعف ورفاقه اليها، ثم مرافقة جثمانه إلى صنعاء بطائرة "الهليوكبتر" وحمله وتوديعه مع صديقي الخلوق عبدالكريم شايف.
ومذاك فقدت الاستاذ والصديق الممتلئ صدقاً ووفاء، وخسرت ابتسامة الأمل وروح الالهام التي كنت استمدهما منه كلما زرته وانا في حالة ضيق وانكسار .. وعبثاً حاولت بعد رحيله ان اجرب صديقاً غيره، لكنني فشلت مرة ومرتين وثلاثاً، وما أزال ابحث عن صديقي الذي فقدت، ولن أجده.
ذو صحبة لا تمل
عرفت المتوكل الانسان البسيط، والصاحب الجميل بداخل الوطن وخارجه.. مؤدب جداً، وخلوق جداً، ذو منطق جذاب، وصحبة لا تمل، ترافقت معه في إب وصنعاء، وتعز، والمكلا، وعدن، ولندن، وباريس، تنقلنا بالقطار والباص، ومشينا طويلاً على الاقدام في شوارع وازقة وفناءات باريس الجميلة، التي يعرفها جيداً، حيث كان المشي عنده هواية مفضلة.
مثقف يهوى المسرح والموسيقى.. حضرنا "الأوبرا" الفرنسية مع المثقفة والاعلامية القديرة خديجة السلامي، وفي نهار صيفي شاهدنا أحد أفلامها التصويرية في رواق ثقافي وسط باريس، وتشاركنا بعض الأحاديث في الشأن اليمني والعربي مع الزميل المتألق فيصل جلول، والسفير الراحل محمد أبو لحوم، وتذوقنا الخبز المحمص، وقواقع بحر المانش مع صديقنا رجل الاعمال اللطيف يحيى الحباري واصدقاء آخرين.. كان يهوى الحياة والصحبة الجميلة، فعرفت في الرجل روح المرح والبساطة والمحبة والتواضع.
نظافة اليد والموقف
عرفت اللواء المتوكل رجل دولة، وقيادي من الطراز الأول، عرفته محافظاً، ووزيراً للداخلية، ومستشاراً، شعلة من الحيوية والنشاط، صاحب مبادرة وارادة، كان يجمع بين اللين والحزم، فأنجز في كل المواقع التي شغلها، والأهم من هذا وذاك كان نظيف اليد واللسان.
في امانة المؤتمر الشعبي العام عرفته عقلية تنظيمية مقتدرة وموجهة، وشخصية جذابة ومبهرة، وتزاملت معه في اللجنة العامة، وكنت التلميذ وهو الاستاذ الكبير والسياسي المحنك، المعروف بتوازنه، صاحب الرأي الصادق والمشورة الصائة.
خلال فترة عملي في المؤتمر، لم أشهد عليه موقفاً ممالئاً للحقيقة.. ولم اسجل له يوماً موقفين متناقضين كما كان يفعل غيره ممن عرفناهم في الصف الاول، يقولون كلاماً في مكان، ويقولون غيره في مكان آخر .. كان صاحب موقف وطني متزن، يصوغة بلغة مؤدبة، ومنطق هادئ ومرن.
اثر حرب صيف 1994م عُرف يحيى المتوكل برفضه منهج "الفيد" والنهب الذي شاع في عدن، وحينما كلفه الرئيس بالمهمة أوقف المهزلة فوراً، ثم في وقت لاحق، وفي ذات السياق حينما كانت الحرب قد هالت غبارها على "الاشتراكي" شكلت لجنة مؤتمرية للمصالحة برئاسة الارياني كنت عضواً فيها.. ووضعت بدوري نقاطاً للمعالجة وفقاً لمنطق الدولة، وشراكة ما بعد الحرب، فكان الاستاذ يحيى المتوكل هو الوحيد الذي أيدها بقوة، بينما أيد الآخرون منطق "من حق المنتصر ان يتذوق طعم النصر"، الذي أطلقه الدكتور عبدالكريم، وبسببها غادرت اللجنة.
صبور لا يغضب
كان يتحلى بالصبر ولم أرَهُ يغضب قط، لا يضيق بالآخر، ولا يتعصب لرأيه، ولا يكترث لمن يسيئ اليه .. بهدوئه وابتسامه كان يعاتب من يحاول الاساءة اليه.. سألته ذات مرة عن سكوته على أحدهم بالغ في اساءته، فقال بابتسامه المعهود: تعلمت يا عبدالوهاب ان لا أجاري الأحمق حمقه، وقد رددت عليه اساءته بصمتي.
عرفت يحيى المتوكل قريباً من الناس، يشاركهم همومهم، لا يتردد في خدمة احدهم، اذا تكلمت يسمعك مصغياً، يشعرك بأهمية ما تقول، ثم إن كنت موجوعاً يرمم اوجاعك بابتسامته التي تسبق كلماته، لديه قدرة نادرة على كسب الاصدقاء، فكان للصداقة عنده معنى آخر، لا علاقة لها بحسابات الفائدة أو الربح والخسارة..
عندما يُذكر الاستاذ يحيى المتوكل فنحن نستحضر سيرة شخصية اجتماعية وسياسية غاية في الكياسة واللياقة، ودوداً متسامحاً، هشاً بشاً مع من يعرفه ومن لا يعرفه .. يشعرك من اول لقاء بأن بينك وبينه معرفة وصحبة قديمة..
كان وطنياً أصيلاً، وفياً للمبادئ والقيم التي ناضل وعاش من اجلها.. لم يكن مهتماً بسلالته أو اقربائه او حتى أبنائه كما يشاع عنه، وكان بامكانه ان يوظف سلطته ومكانته في السلطة لمصالحه الشخصية ولأقربائه، ولكنه لم يفعل..
رحم الله يحيى المتوكل، خسر الوطن برحيله كثيراً، وأجزم لو كتبت له الحياة لما بعد 2011 لما وصلنا إلى ما وصلنا اليه، ولعل الرئيس صالح (رحمه الله) كان أكثر الناس خسارة وتأثراً برحيله، فقد كان رفيقه وصديقه، ومستشاره، الذي كان يشاركه اهم واعقد مشاكل البلاد السياسية والتنظيمية، وكان في الغالب يمسك بمفاتيح الحلول.
|