عبدالجليل أحمد ناجي - على الرغم من أن ثورتي سبتمبر 1962م واكتوبر 1963م أحدثتا تحولاً تأريخياً كبيراً في اليمن لما حملته من أهداف عظيمة وقيم نبيلة وانجازات إدارية وخدمية لاتقارن بما كان قبلهما، إلا أن اليمن نتيجة لضخامة تركة التخلف الموروث عن الإمامة والإستعمار لم تشهد استقراراً سياسياً حقيقياً ، وبقيت حالات المد والجزر في الصراعات السياسية هي السائدة شمالاً وجنوباً، ففي عام1970م أُقر الدستور الدائم في الشمال متضمناً نصاً يحرم الحزبية بهدف قطع الطريق أمام خلافات القوى السياسية المتصارعة والمتطلعة إلى التعبير عن أفكارها وممارسة انشطتها الحزبية علناً بسبب أن كل طرف يقف على النقيض من الطرف الآخر ويرى فيه خطراً على وجوده ومنافساً له على كرسي السلطة ، ولأن هذا التحريم حتى لم يكن عادلاً فقد كان يخدم اطرافاً ويضيق الخناق على أخرى ، فالقوى ذات التوجه الإسلامي اليميني كانت تمارس انشطتها بأريحية تحت غطاء الدعوة والإرشاد والتعليم ، وتستغل هذه المنابر لتقوية نفوذها، فيما بقيت قوى الوسط واليسار تقع تحت طائلة المنع والقمع المباشر ، وهذا زاد الطين بلة وحول مجرى الصراع من صراع وتنافس سياسي مشروع إلى صراع عدائي وقمعي متبادل وتمردات مسلحة ومؤامرات واغتيالات تدار من تحت الطاولة وبدعم أيادٍ خارجية...
* أما في الجنوب وبعد صراعات مريرة بين القوى السياسية والتي كان اشهرها الصراع المسلح بين الجبهة القومية وجبهة التحرير وغيرهما من الأحزاب والتيارات الأخرى تم احتواء كثير من فصائل الأحزاب عام 1978م تحت مظلة الحزب الاشتراكي اليمني ، فيما غادرت قوى أخرى إلى المنفى بعدها خفت صوت العمل الحزبي ولكن بقيت النار تحت الرماد وبؤر التوتر ساخنه وتصفية الحسابات والخصومات بين الرفاق مستمرة، وكلما تحقق استقرار نسبي لفترة تحركت بؤر الفتن من جديد، أيضاً مثل الصراع الشطري بين الشمال والجنوب والذي كان من نتائجه حرب 1979م واحداث المناطق الوسطى عملية استنزاف رهيبة لكل المقدرات المادية والبشرية والتنموية ..
وفي بداية عهد الرئيس السابق الشهيد علي عبدالله صالح عام 1978م حدث جزء من هذه الأحداث والصراعات،وكانت الأوضاع مرتبكه وغير مستقرة والساحة تغلي بالمتناقضات وبؤر التوتر مشتعلة في كثير من المناطق وبالذات تلك البعيدة عن مركز الدولة أو التي تقع على امتداد الحدود الشطرية ، وحتى المناطق التي تحت قبضة الدولة في صنعاء لم تكن بمأمن عن التحركات والأنشطة المعادية من تحت الطاولة ، وهذا يعني وجود عقبات وبؤر تستنزف مقدرات البلد وتحول دون وجود استقرار سياسي حقيقي ، وكان لابد من مراجعة عميقة لمجريات الأحداث والبحث عن رؤية واقعية تساعد على تجاوز صراعات الماضي وتساهم في تحقيق استقرار سياسي حقيقي، فتم الشروع في عمل استشارات واسعة في أوساط العلماء وأعضاء مجلس الشعب التأسيسي والشخصيات السياسية والاجتماعية والمثقفين وأستقرت الآراء على فكرة الحوار الوطني الذي لايستثني أحداً -كضرورة وطنية- وبدأت عملية بلورة الأفكار الأولى للميثاق الوطني ومن ثم تشكيل لجنة الحوار الوطني من شخصيات تمثل كل أطياف المجتمع اليمني متعدد الأفكار والتوجهات، تولت مهام الاتصال والتواصل مع كافة القوى السياسية والوطنية ورجال الفكر والمثقفين والعلماء وإدارة لقاءات وندوات ومؤتمرات على المستويين المركزي والمحلي، ونظمت استفتاء شعبياً معززا باستمارة جمع آراء المواطنين وفرزها بغرض استكمال بلورة كل الأفكار وتم صياغة مشروع الميثاق الوطني بصورته النهائية تمهيداً لعرضه على المؤتمر العام الأول للمؤتمر الشعبي العام أغسطس 1982م..
* كانت مراحل الحوار قد شهدت جدلاً واسعاً وتباينات ومقاربات كثيرة، وكل طرف سياسي كان يرى أن فكره أو أيديولوجيته هي الافضل ؟
وكان آخرون يرون أن تأريخ الأحداث والصراعات التي مرت وتمر بها البلاد مازالت تشكل مصدر قلق لدى الجميع، ولابد من أن تكون ثمرة الحوار الوطني صيغة وطنية خالصة يصطف حولها اليمنيون بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم ، ومن أجل أن توجد هذه الصيغة فلابد أولا من استخلاص حقائق تكون بمثابة نظريات معرفية يتم البناء عليها في إيجاد هذه الصيغة الوطنية لنظام الحكم، تكون هذه الحقائق واقعية وملبية لطموحات شعبنا بمختلف شرائحه ومكوناته وقواه السياسية والوطنية وليس فيها من الثغرات أو المحاذير التي يمكن أن تعيد إنتاج سيناريوهات الصراعات والأزمات المأساوية التي شهدتها البلاد في مراحلها المختلفة ..
وكان الخيار الأفضل لاستخلاص هذه الحقائق في العودة إلى المرجعيات الكبرى لشعبنا وأمتنا والمتمثلة في النظام الجمهوري واهداف الثورة بمبادئهما وقيمهما العصرية النبيلة ومبادىء ديننا الإسلامي الحنيف وموروثنا التأريخي والحضاري العريق قديماً وحديثاً .
|