طه العامري - لعقود طويلة ظل (الإعلام في أمريكا والمنظومة الغربية) يحتل مكانة متقدمة في وجدان وذاكرة المتلقي باعتباره (إعلاماً حراً، وديمقراطياً، وشفافاً، وصادقاً، ومعلوماته مؤكدة) وكان المتلقي العربي ربما أكثر من يشده الإعلام الغربي-الأمريكي، وحتى البسطاء من العرب كانوا مبهورين بإذاعتي (لندن، وصوت أمريكا) ويصدقوا كل ما تبثه هذه المنابر الإعلامية، وكان ما يصدر منها وما تبثه من أخبار يندرج لمرتبة (التقديس) غير القابل للانتقاص..؟
هذا الاعتقاد بما يسوقه الإعلام الغربي-الأمريكي لدى المتلقي العربي لم يقتصر على العامة من أبناء الأمة العربية وحتى الإسلامية، بل انخدعت به الأنظمة ورموزها والنخب السياسية والثقافية، لدرجة ان احد (الملوك العرب) كان يبدأ يومه بالاستماع (لراديو لندن.. وصوت أمريكا) وقيل إن هذا (الملك) كان يصدق هذه الإذاعات أكثر مما يصدق اذاعته التي تبث اخباره وتسبّح بحمده..!
قليلون في هذه الأمة من كانوا على يقين بأن الإعلام الغربي - الأمريكي إعلام موجه يخدم مصالح وخطط من يموله باعتبار هذه الوسائل الإعلامية جزءاً من استراتيجية (الدبلوماسية الناعمة) التي تعد إحدى أدوات المحاور الاستعمارية في تحقيق أهدافها الاستراتيجية وتنفيذ مخططاتها التآمرية ضد العرب والمسلمين..؟!
لكن لم يكن لهؤلاء القلة قدرة على إقناع الغالبية المشدودة للإعلام الغربي.. الأمريكي.
حتى أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قال ذات يوم من أيام حكمه: إنني حريص على الاستماع لإذاعتي لندن وصوت أمريكا، فإن سمعت هجومهم عليَّ اعرف اننا أسير في الطريق السليم، وان سمعت إطراء من قبلهم أدرك أنني عملت شيئا لصالحهم فأعيد مراجعة مواقفي)..
ورغم أن هذا التصريح صدر من قائد بحجم عبد الناصر إلا أن أحداً لم يتوقف أمامه، بل ظل الانبهار بما يبثه الإعلام الغربي - الأمريكي يشد المتلقي العربي والإسلامي، وكان المثقف العربي والإعلاميين العرب يتسابقون وبحماس للانتماء لهذا الإعلام، والالتحاق بركبه، ومن يحظى بفرصة عمل في أي وسيلة إعلامية غربية وامريكية يرى نفسه وكأنه دخل (جنة الله) من أوسع الأبواب..!!
قناعات أثرت بصورة سلبية على أداء الإعلام العربي وانعكست بفقدان الإعلاميين العرب ثقتهم بأنفسهم وبإعلامهم وخطابهم الإعلامي، مع سيطرة الأنظمة العربية بدورها على هذا القطاع ومخرجاته ودوره وطريقة أدائه، فضاعف هذا السلوك من تحجر بل وجمود هذا القطاع الحيوي في مسار الأمة وتحولاتها، فزاد هذا الأمر من ترسيخ قناعات المتلقي العربي بمصداقية ونزاهة وحيادية الإعلام الغربي - الأمريكي، واعتبار كل ما يصدر عنه (وحياً يوحى)..؟!
بذات القدر الذي ظل فيه الإنسان العربي بكل نخبه وشرائحه مبهوراً بحياة الغرب وحريته وديمقراطيته، وبكل الشعارات التي تصدر من المنظومة الغربية عن حرية الرأي وحقوق الإنسان، وعن قوانين الغرب وعدالتهم وقضائهم الذي صوره البعض من المنبهرين وكأنه أكثر عدلاً من (الشريعة الإسلامية)..؟!
الأمر لم يتوقف في حدود الإعجاب والانبهار العربي - الإسلامي بالإعلام الغربي وحسب، بل راحت بعض النخب العربية تعمل على استنساخ قيم وقوانين وتشريعات الإعلام الغربي والبدء في تطبيق ذلك على أداء الإعلام العربي -الإسلامي ودوره ورسالته الحضارية، تحت ذريعة التطور والتقدم والارتقاء المهني وتحديث رسالة المهنة ومنتسبيها، ولم تبخل وسائل الإعلام الغربية- الأمريكية في تقديم منح إعلامية ودورات تأهيلية لبعض الإعلاميين العرب والمسلمين وتدجين رسالتهم المهنية وفق مخطط منهجي عنوانه (الحيادية المهنية)..؟!
حيادية مهنية، تعني أن يتجرد الإعلامي العربي والمسلم من كل مشاعر الولاء والانتماء لقضايا أمته ومعتقداتها، وان يتعاطى مع رسالته مهنيا بعيدا عن العواطف، اي ان يتحول هذا الإعلام العربي إلى مجرد (ريبوت) أو آلة مهمته نقل الحدث كما تريد الجهة المشغلة لهذا الإعلامي التي بدورها تخضع لإرادة ورغبة مموليها..؟!
قوانين مهنية فُرضت تحت يافطة الحياد تلزمك كإعلامي عربي إذا أخذت تصريحاً من( مسئول فلسطيني) أن تأخذ تصريحاً مماثلاً من (مسئول صهيوني) وان لم تفعل ذلك فأنت ليس مهنياً ولا محايداً، بل قد يتم وصفك بأقذع الأوصاف ويقطع رزقك وربما لا تجد وسيلة إعلامية عربية تقبل بتشغيلك..؟!
بيد أن ثمة تحولات وتطورات وإحداثاً أدت في مجملها إلى فضح الإعلام الغربي -الأمريكي وفضح اكاذيبه وحريته الزائفة وحياديته ومهنيته وديمقراطيته، إذ سقطت كل هذه المزاعم والشعارات المضللة ولكن للأسف حدث هذا بعد أن تمكن الإعلام الغربي -الأمريكي من إيجاد وسائله وأدواته ومنابره الإعلامية في فضائنا العربي الإسلامي الذي يؤدي رسالة مهنية نيابة عن الاعلام الغربي -الأمريكي، الأمر الذي يضع الأمة وشرفاءها وأحرارها أمام تحديات المواجهة في معركة فكرية وثقافية تعيد الإعلام العربي لمساره وتربطه بقضايا أمته الوجودية، وتعيد تنقية مفرداته وتصحيح خطابه ورسالته المهنية بما يتسق مع قضايا الأمة وحقوقها وقيمها الثقافية والفكرية والحضارية..
|