نبيه البرجي* - قبيل رحيله في العام 1995م، فوجئتُ بالمستشرق الفرنسيّ الشهير جاك بيرك على كرسيٍّ متحرّك في إحدى المستشفيات الباريسيّة. قال لي "إنّها آلام الظهر يا صاحبي ...". وحين قدّمت له نفسي، وأنّني أتابع مؤلَّفاته، قال لي بالعربيّة التي يتقنها "آلام الظهر عندي تظلّ أقلّ هولاً من آلام التاريخ عندكم".
يبدو أنّني أيقظتُ لديه الحنين الى الشرق.. قال "لقد أمضيتُ سنوات طويلة، أنا الذي وُلدت في الجزائر، أحثّكم على أنّ باب التاريخ ليس باب المستقبل، للمستقبل بابٌ واحدٌ هو .. المستقبل".
أضافَ :"حتّى الآن، ما أزال حائراً ما إذا كان التاريخ عندكم هو الذي يجرّ الأيديولوجيا أم الأيديولوجيا هي التي تجرّ التاريخ. ربّما هذا الالتباس، وقد يكون الالتباس الفلسفي، السبب في عبقريّة الشرق، وفي عذابات الشرق".
تذكّر أنّ آدم هبط في عقر داركم. وقد يكون هذا "جاذباً لكلّ صراعات الكون على أرضكم. لا أدري إلى متى ستبقون هكذا، مع أنّ القرآن الذي نزل على نبيّكم، وقد نقلته إلى الفرنسيّة، لم أجد فيه الخلاص للبشريّة فقط، وإنّما الكتاب المقدّس الذي قد يكون تفرَّد بإعطاء الفرح للبشريّة. تلك الآيات التي لا تزال تتغلغل في روحي وفي عظامي".
وكنتُ قد افتتنتُ بكتاب أندريه فونتين "الحرب الباردة"، المصطلح الذي يعتقد البعض أنّ "دين أتشيسون"، وزير الخارجية الأميركي في عهد هاري ترومان، هو الذي ابتدعه. الحقيقة أنّ الملكة إيزابيلا التي أخرجت العرب من الأندلس، هي أوّل من نَطَقَ بالمصطلح.. La Guerra fria، إذ كنتُ أعتزم ترجمة الكتاب إلى العربيّة لثرائه المدهش، وطلبتُ موعداً من فونتين الذي كان مدير تحرير صحيفة "لوموند". أُعطيت 20 دقيقة. وحين دخلتُ إلى مكتبه، بدأ بتوجيه الأسئلة إليّ، وعن نظرتي إلى الأحوال في الشرق الأوسط، وهو الأكثر خبرة والأكثر رؤيويّة والأكثر ثقافةً منّي.
لاحظتُ، وهو اليهودي اللّيبرالي بالأسلوب الرائع، أنّه أقرب الى الرؤية العربيّة لقضايا المنطقة منه إلى الرؤية (والرؤيا) الإسرائيليّة. بقي لنحو ساعة يتكلّم قبل أن يقول لي.. "الآن بدأ موعدك".
جيوبوليتيكا العقل
مستعيداً وصف هيرودوت، منذ 2500 عام، للشرق الأدنى بأنّه يقع على خطّ الزلازل، قال لي "أخشى أن يكون على خطّ الحرائق أيضاً". توقَّع، من خلال رؤية بانوراميّة للأحداث، أن نكون مُقبلين على "زمن الإمبراطوريّات المجنونة والإيديولوجيّات المجنونة". الحديث كان في بداية التسعينيّات من القرن الفائت. علّقت على كلامه "أَمِن أجل ذلك خرج بيار بورديو، عالم الاجتماع، تعقيباً على بعض الظواهر المجنونة، بمصطلح "جيوبوليتيكا العقل" كمضادّ لـ "جيوبوليتيكا اللّاعقل"؟ أجابني "قد تكونون فعلاً الأكثر احتياجاً إلى "جيوبوليتيكا العقل". هذه مهمّة شاقّة وثوريّة بقدر ما هي مهمّة فذّة لأيّ رجل دولة".
تراجَعَ فونتين عن تشاؤمه قليلاً ليقول: "لقد أمضيتم قروناً تحت المظلّة العثمانيّة، وأيضاً تحت مظلّة غزاة آخرين.. عادةً أوّل ما تفعله الإمبراطوريّات في المُجتمعات التي تستولي عليها، اغتيال الزمن كمرادفٍ لاغتيال العقل. لكنّني أتوقّع، وأنتم وَرَثة حضارات كبرى، أن تغتسلوا من كلّ هذا، وأن تستعيدوا الوعي بالمعنى... إيّاه الوعي بالزمن، وتدخلوا بخطىً حثيثة إلى القرن".
اللاّهوت الشيوعيّ
لكنّنا اعتدنا أن نكون ضحايا الحروب الكبرى والصراعات الكبرى. نستذكر، على الأقلّ، ما حلّ بنا غداة أن وضعت الحرب العالَميّة الأولى أوزارها. الغرابة في أنّ الغرب يبحث، وفي أحيان كثيرة، بأسنانه، عن الشرق. ليس الغرب فقط. تلك الدول الإقليميّة التي يتقاطع فيها التاريخ مع الجغرافيا على نحوٍ هستيري، والتي تسعى للاختراق الجيوسياسي، وحتّى الاختراق الإيديولوجي لدولنا بذريعة ملء الفراغ.
جون فوستر دالاس، وزير الخارجيّة الأميركيّة وشقيقه آلان دالاس، مدير وكالة الاستخبارات المركزيّة في عهد الرئيس دوايت إيزنهاور، هُما أوّل من أَطلق نظريّة الفراغ في الشرق الأوسط، إثر غروب الإمبراطوريّتَيْن البريطانيّة والفرنسيّة على ضفاف السويس في العام 1956م..
هكذا ظهر في العام 1957م "مبدأ إيزنهاور" لملء الفراغ. وهكذا كانت "النقطة الرّابعة" التي راحت توزِّع أكياس الطحين بدلَ أن تنقل إلينا عدوى الحداثة وديناميّات الحداثة كطريقٍ إلى المستقبل.
وكان على المنطقة أن تتبعثر أكثر فأكثر تحت شعار حمايتها من "الطوفان الشيوعي" الذي لم يستقطب سوى القلّة القليلة من الذين تأثّروا بما عُرف لاحقاً بـ "لاهوت التحرير". تصوّروا أن يغزونا ذلك الشيء الذي يدعى... اللّاهوت الشيوعي!!
دائماً ما يُعيد الغرب ترميم العلاقات والمُعادلات عقب كلِّ انفجار إمبراطوري. حَدَثَ ذلك في وستفاليا في العام 1648م، وفي فيينّا في العام 1815م، وفي فرساي في العام 1919م وصولاً إلى يالطا في العام 1945، لنكون أمام شكلٍ آخر للعالَم مع تفكُّك الاتّحاد السوفييتي. جان دانيال، مدير مجلّة "لو نوفيل أوبسرفاتور" كَتَبَ "كما لو أنّكَ تستيقظ ذات صباح ويُقال لكَ إنّ الشيطان قد مات".. هل مات الشيطان حقّاً؟
الفوضى العالَميّة الجديدة
الرئيس جورج بوش الابن اعتبرَ أنّنا أمام نظامٍ عالَمي جديد. كيف يكون ذلك من دون إعادة هيْكَلة مجلس الأمن الدولي والمؤسّسات الدوليّة، وحتّى المُعادلات الدوليّة. دولة واحدة تقرِّر شكلَ النظام الدوليّ. هذا ما دعا زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر والباحث المستقبلي، إلى الاستدراك بالقول: "الفوضى العالَميّة الجديدة". تلك الفوضى التي انعكست بصورة دراماتيكيّة على المشهد الشرق أوسطي. لم تكُن المنطقة العربيّة ضحيّة الصراع بين القوى العظمى، بل وضحيّة الصراع بين قوى إقليميّة كانت، وربّما ما زالت، تعتبر أنّ بإمكانها التسلُّل عبر الزوايا لإحياء ماضيها الإمبراطوري من خلال ما وَصفه لنا ديبلوماسيٌّ خليجي، بـ "الترويع الأيديولوجي" في بعض البلدان العربيّة.
كثيرون من الباحثين الاستراتيجيّين على ضفّتَيْ الأطلسي، وحتّى في روسيا والصين، يشيرون إلى الشرق الأوسط كـ "فردوس للطاقة".. في نظرهم أنّ الصراع الحالي بين أميركا وروسيا على الأرض الأوكرانيّة، وربّما على ما هو أبعد من الأرض الأوكرانيّة، يضع منطقتنا، وحيث التقاطُع بين خطّ الزلازل وخطّ الحرائق، على خطّ الاحتمالات. مَن تراه يستطيع التكهّن بطبيعة تلك الاحتمالات؟
المفكِّر الروسي ألكسندر دوغين يرى أنّ الحرب الأميركيّة على بلاده "ما هي إلّا مدخل للحرب على الصين بإمكاناتها الاقتصاديّة والديموغرافيّة الهائلة، ليس للتفرّد في قيادة الكرة الأرضيّة فقط، وإنّما للاستيلاء على كلّ ثروات الكرة الأرضيّة".
باحثون أوروبيّون إذ يرون أنّ هذا هو المنطق التقليدي للإمبراطوريّات، يَدعون في ظلّ المعاناة التي تعيشها القارّة العجوز، والتي لا تغيّر في نمط الحياة فقط، وإنّما أيضاً في الحياة، إلى إحداث انقلابٍ فلسفي، وانقلابٍ استراتيجي في مفهوم النظام الدولي.
النظام اللانظام
إنّ سؤال هؤلاء الذين يصفون نظام يالطا، وقد اختزله الاستقطاب الأحادي، بـ "اللّانظام"، إثر زوال الإمبراطوريّة السوفياتيّة، لأنّ العلاقات الدوليّة في حالٍ من الاجترار العبثي، في حين أنّ العولمة التي كرّست واقع "القرية الكونيّة"، تفترض بلورة طُرق أخرى للتفاعلات السياسيّة والاقتصاديّة، والثقافيّة، ناهيك بالتفاعل الاستراتيجي، إنّ سؤالهم الذي يثير الانتباه (والنقاش) هو: "لماذا علينا أن ننتظر أن يتولّى الثلاثي الأميركي - الروسي - الصيني صوغ النظام العالمي الجديد الذي لا بدّ من أن يقوم فوق أكوام من الجثث"؟
هنا النظام، بكلّ المعايير والقواعد التي يفترض أن تكون تلاشت مع إيقاع العصر. لا بلقنة، ولا تقاسم لمناطق النفوذ، في حين أنّ مشكلة مثل الاحتباس الحراري، يمكن أن تشكِّل خطراً وجوديّاً يفوق بأهواله أهوال الحرب النوويّة، من دون إغفال مشكلة أخرى، حيث الصراع العشوائي للأسواق.
الحلّ في أن ينطلق النظام البديل، النظام الخلّاق (ببُعده الأخلاقي أيضاً) من دولٍ أخرى على مسافة من السياق الكلاسيكي للصراع.
السعودية مثالاً
البعض يأخذ مثالاً السعوديّة التي إذ تحتفظ بعلاقاتٍ استراتيجيّة مع الولايات المتّحدة، تقيم علاقات مماثلة ومتوازية مع كلٍّ من روسيا والصين. دائماً انطلاقاً من مصالحها، لا من مصالح أولئك الذين يقطنون في الطبقة العليا من الكرة الأرضيّة.
هذا هو النظام الذي يمكن أن يحدّ من ظهور الإمبراطوريّات المجنونة والأيديولوجيّات المجنونة بتداعياتها الأبوكاليبتيّة، مع التخلّي عن ثقافة الهَيْمنة كاستعادةٍ كارثية لمُعادلة... قايين وهابيل!
في كتابه "ملك العالَم الجديد"، كتعقيبٍ على انتصار الحلفاء على النازيّة، قال السياسي الفرنسي هنري بيرانجيه "ما كان النصر ليتحقّق لولا دم آخر، هو دم الأرض الذي يدعى النفط".
هنا جوهر استراتيجيّات كبرى تقاطعت أو تصادمت في نقاط كثيرة. بعض المؤرّخين لاحظَ أنّ ظهور النفط أدّى إلى تشكُّل نواة النظام العالمي. وإذا كان النفطُ مَهْدَ الحضارات الكبرى، ومهد الديانات الكبرى، وحتّى مهد الاستراتيجيّات الكبرى، لماذا لا ينبثق من أرضه النظام العالمي، لا أن يبقى يتراقص بين لَيل الزلازل ولَيل الحرائق. هنا السؤال الذي قد يكون أكثر حساسيّة. هل تدري الدول الإقليميّة المصابة، مرضيّاً، باللّوثة الإمبراطوريّة أنّ الخطوط الحمر تحدِقُ بها من كلّ حدبٍ وصوب؛ وأنّها حين تحاول العبث بالخرائط أو بالوقائع، إنّما تلعب لحساب القوى العظمى، أي أنّها بمثابة الأداة الخفيّة - الأداة الغبيّة - لتلك القوى؟
بطبيعة الحال، لا بدّ أن تكون للحرب الرّاهنة، والتي يمكن أن تمتدّ لسنوات، تداعياتها البنيويّة على المعادلات، وعلى الخرائط، في بعض المناطق الهشّة ولاسيّما تلك التي أخفقت في إدارة التوازنات.
أوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، كان قد لفتَ إلى أنّ القوى الإقليميّة "المسؤولة عن الفوضى الجيوسياسيّة"، إذ تضْطلع بدورِ "البدل الضائع" في الوقت الضائع، فإنّها تقع أيضاً على خطّ الزلازل، وعلى خطّ الحرائق، وهي التي تحاول عبثاً حجْبَ التصدُّع السوسيولوجي، إثنيّاً أو طائفيّاً، في داخلها.
المنظومة الإقليميّة
لقد دعا فيدرين بعضَ القوى في محيط الشرق الأدنى إلى التخلّي عن الترسّبات التاريخيّة والترسّبات الأيديولوجيّة التي تُستعمل لزعزعة البنى السياسيّة والاقتصاديّة للمنطقة، ليصبح بالإمكان تشكيل منظومة إقليميّة تقوم على التفاعُل الثقافي والاقتصادي، وحتّى الاستراتيجي، بدل المضيّ في جاذبيّة الاجترار، بما في ذلك الاجترار الدموي.
من هذه المنظومة بالذّات يمكن أن ينطلق مفهوم آخر للنظام العالَمي يأخذ بالاعتبار أنّه آن الأوان للبحث عن لغة أخرى للعالَم "تقود إلى الحياة لا إلى الفناء".
على الرّغم من رفضنا لبعض مؤلّفاته، كَتَبَ الباحث الفرنسي ماريك هالتر الذي شكَّك - بيولوجيّاً - بالأصل العبري لليهود المُهاجرين إلى فلسطين، أنّ المجتمعات القديمة في أوروبا تعرّفت إلى "المؤسّسة" عندما فوجئت براعٍ من الشرق الأدنى يدفع بقطيعه أمامه.
مفهوم المؤسّسة من أرضنا.. لماذا لا يكون النظام الدولي أيضاً من أرضنا ما دام النفط هو دم الأرض؟
*كاتب سياسي وباحث من لبنان
|