د. عبدالعزيز المقالح* - »إن التعصب الأعمى لا يثمر إلا الشر، وإن محاولات أية فئة متعصبة للقضاء على الآخرين أو إخضاعهم بالقوة، قد فشل عبر تاريخ اليمن كله, وإن الاستقرار الجزئي أو الشامل لليمن في ظل حكم يتسلط بالقوة، ويتسلط بالدجل والخديعة، لا يدوم طويلاً، وغالباً ما ينتهي بكارثة، بعد أن كان - نفسه - كارثة على الشعب، وإن الحوار الواعي هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق حياة أفضل للمجتمع«.
الميثاق الوطني - الحقيقة الثالثة
قد نكون اليوم - في ظل الحزبية والتوجه نحو الديمقراطية - بحاجة ماسة إلى التأمل طويلاً في المحاولات القريبة والبعيدة التي أسهمت في التهيئة لهذه المرحلة, وذلك لكي تعرف المدى الذي قطعناه في مضمار التعايش والقبول ليس بالآخر منا, وحسب، بل لنكون أكثر قدرة على مواجهة ما تبقى من آثار الكراهية العالقة في الأذهان من عهود التمزق والشتات فالحياة أرحب من دائرة الأحقاد، وربما يكون انعقاد المؤتمر العام الخامس للمؤتمر الشعبي العام مناسبة طيبة للحديث عن واحدة من أهم وأقرب المحاولات التي تمت للتقريب بين وجهات النظر المتناقضة والمتعارضة والتي صدر عنها الميثاق الوطني: هذه الوثيقة اليمنية التي قد تكون الوحيدة - بعد الدستور طبعاً - التي تم طرحها للاستفتاء الشعبي، وجاءت الموافقة عليها بالإجماع.. ومن تحصيل الحاصل القول بأن هذه الوثيقة ساعدت - بشكل أو بآخر - في خلق معطيات سياسية جديدة على مستوى الساحة اليمنية كلها.. ومن المهم الإشارة - منذ البدء - إلى أن هذه الوثيقة قد ظهرت بعد فترة استثنائية من تاريخ هذا الوطن، وبعد سنوات من تراجع القوى الوطنية وانغلاقها على الذات في أجواء القمع وسيادة الممارسات التي كبحت والاكتفاء بالفرجة أو التحسر على الجهد الإنساني المحاصر بالخوف والاتهامات، والمحروم من أبسط أساسيات الإرادة الشعبية، ودعت الكثيرين إلى هجر العمل السياسي والتفتح والازدهار.
وللأمانة التاريخية - ومهما يكن رأي الخصوم والمنافسين - الآن في هذه الوثيقة الوطنية، فإن التغيير فيها قد فتح ولو نافذة صغيرة في الجدار الذي كان يعزل السلطة عن الشعب، ويعزل الشعب عن السلطة في هذا الجزء من البلاد، وجعل الحوار ممكنا بين عشرات من المثقفين السياسيين المستقلين أو المنتمين إلى الأحزاب؛ بقصد الوصول إلى صيغة تتضمن قدراً من التغيير في طريقة التعامل التي كان ينبغي أن تسود العلاقات بين السلطة والمعارضة من جهة، وبينهما والشعب الذي ظل يحلم بحياة أكثر تقدماً واستقراراً، وبصلة واسعة مع العصر وعلاقة جيدة مع الآخرين من جهة أخرى..
وإذا نظرنا إلى الفترة الزمنية التي تم فيها الحوار الذي أسفر عن هذه الوثيقة, فإننا نجد أن القوى الوطنية اليمنية كلها - تقريباً - كانت قد وصلت - بعد موجات من الصراع السلبي والتحليلات السياسية الجادة - إلى بداية اقتناع بضرورة الوصول إلى حلول إيجابية تستمد جذورها من الواقع القائم، ومن الثوابت الروحية والوطنية لا من الشعارات التي كانت سائدة داخل بعض العقول المغلقة والمغتربة والتي أثبتت الأيام عقم تصوراتها وفشلها المرعب.
ما يتوجب إيضاحه هنا هو، أن هذه الفترة قد بدأت بعد شهور قليلة من صعود الفريق علي عبدالله صالح إلى الرئاسة الذي تبنى الدعوة إلى الحوار في جو الشعور المسئول بخطورة الفراغ الفكري والسياسي، والحساسية المفرطة الملازمة للأنظمة التي تعاقبت على الشطرين تجاه كل أشكال الديمقراطية وكل ما يشير إليها.. وقد أتاحت هذه الفترة فرصة طيبة لعدد من المثقفين - الذين كان بعضهم في السلطة وبعضهم الآخر خارجها - لدراسة كامل التجربة الوطنية, حيث شرعوا - مجتمعين أو منفردين - في مراجعة أسباب الهزائم والخيبات التي لحقت بالأحلام الوطنية وأوصلت كل المحاولات الهادفة إلى التغيير إلى طرق مسدودة. ومهما اختلفت الآراء واضطربت التصورات حول تلك الفترة، وحول هذه الوثيقة الوطنية البالغة الأهمية، فإن مرحلة البحث عن الدليل النظري للمؤتمر الشعبي ستبقى صفحة مشرقة في تاريخ هذا الوطن بكل ما رافقها من محاولات، وأحاط بها من ملابسات حتمت - منذ البداية - ضرورة الحوار، ورفضت الانغلاق الفكري، وسعت للدعوة إلى الانفتاح على أفكار الآخرين والحوار معهم حول الحد الأدنى من المواقف المشتركة، والاعتراف المتبادل من كل الأطراف التي ارتضت الحوار، وقد كانت الحسن الحظ - تمثل كل الاتجاهات القائمة - تقريباً - والتي كانت تشغل الساحة بأحلامها وهمومها واندفاعاتها وانكساراتها. وقد كانت الخطوة الأولى على طريق الحوار الاعتراف بالثوابت الروحية والوطنية، والتسليم بأن »انتصار الثورة في استمراريتها وتطورها.. ثم تحولها إلى نهج ديمقراطي راسخ تصبح قواعده وأصوله جزءاً من حياة الناس يعيشونه ويمارسونه على مستوى المجتمع والدولة« كما تشير إلى ذلك السطور الأولى من مقدمة الميثاق.
وإذا كان الحوار في حد ذاته يعد عملاً ديمقراطياً ودعوة ملحة إلى الأخذ بالديمقراطية فإن القواسم المشتركة التي تم التوصل إليها في تلك الأيام قد قادت الأمور إلى حوار أكبر (حوار الوحدة بين الشطرين أو بالأصح بين النظامين المتخاصمين), وكاد زمن الوحدة - بعد ذلك الحوار - يصبح أقرب لولا أحداث 13 يناير 1986م المؤسفة التي كادت تعصف بكل المحاولات الناتجة عن الحوار والمساجلة الهادئة.
لقد التقى في حوار الميثاق أشخاص من كل الاتجاهات، وشارك فيه اليمين واليسار، الإقليمي والقومي، التقدمي والمتزمت، وذابت بعض الثلوج المتجمدة.. وتنازل البعض - مؤقتاً أو دائماً - عن قناعاتهم ومقولاتهم السياسية السابقة، ومن خلال اللقاءات اليومية اكتشف الجميع كم يبدو الفارق كبيراً بين الأفكار التي يدعون إليها والممارسة الفعلية في الواقع المطلوب تغييره لصالح الجميع.
وهكذا بالتفكير السليم وبمنطق العقل والصبر يمكن للمتحاورين أن يهتدوا إلى إقامة الدولة الحديثة الملتزمة بالدستور وما يفرضه من مؤسسات وعلاقات إنسانية تستمد جوهرها من الدين الحنيف، ومن روح القيم الداعية إلى العدل والحرية والمحافظة على النظام الجمهوري القائم (على أسس دستورية واضحة تضمن السيادة الشعبية، وتحقق العدل والتكافل الاجتماعي، وترسي مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، وتضمن تكافؤ الفرص أمــــام الجميع، والنمو في جميع المجالات، وصولاً إلى بناء مجتمع فاضل يبدأ برعاية الأسرة باعتبارها نواة المجتمع، وإعداد المرأة إعداداً يمكنها من القيام برسالتها العظيمة، من مشاركة الرجل في التعليم والعمل وبناء الحياة في المجالات التي تستطيع أن تبدع فيها، فالنساء شقائق الرجال).
الميثاق الوطني الباب الأول - الإسلام عقيدة وشريعة
ويتبين من الأدبيات المنبثقة عن مرحلة الحوار المرافقة لظهور الميثاق أن عدداً كبيراً من ممثلي القوى الوطنية قد شاركوا في صياغة هذا الدليل النظري، ولا يزال محتفظاً بالقواسم المشتركة التي تم استخلاصها من الحوار الطويل والمناقشات الجادة التي بدأت في أواخر عام 1978م، واستمرت حتى عام 1982م، ولهذا فإن (الميثاق الوطني) - في صياغته الراهنة - لم يكن عملاً جاهزاً قام به فرد أو أفراد، وإنما هو جملة الملاحظات والمنطلقات التي تم التوصل إليها بعد أربعة أعوام من النقاش المنظم، والحوارات المشتركة من القمة إلى القاعدة من جهة، ومختلف القوى السياسية من جهة ثانية، ولاعتباره وثيقة وطنية فهو »ليس صادراً عن فئة أو جماعة, كما أنه ليس إملاء من فرد أو سلطة، بل إنه فكر مواطنينا وطموحات شعبنا، وصياغته بصورة مباشرة« من اجتهادات عدة تعطي له أهمية كافية وتكسبه مزيداً من الحياة والتطور والقابلية.
والحديث عنه الآن ليس باعتباره الدليل النظري للمؤتمر الشعبي العام، وإنما بوصفه الوثيقة التي تعيد القارئ إلى أجواء ذلك المناخ الاستثنائي بما خلقه من تقارب وحشد للطاقات ساعد - يومئذ - على الخروج من عنق الزجاجة، ثم إن الحديث عنه الآن يأتي للتأكيد على إمكانية استمرار ذلك التقارب في مناخ أكثر احتفاء والتزاماً بمفهوم الديمقراطية واحترام الرأي الآخر دونما حاجة إلى اللجوء إلى الإثارة والانفعال وتشويه التجربة الوليدة أو الاندفاع إلى تدميرها بدلاً من مواصلة البحث عن شيء جوهري أعمق يحافظ عليها ويحميها من الوقوع في خانة المظاهر والشكليات.
وكم أشعر بأهمية الحوار في هذا الموضوع الحي، وبضرورة تكراره وطرحه من مختلف جوانبه حتى يصبح هاجساً وهماً من همومنا الفكرية والوطنية.
أخيراً.. لقد سقطت "براميل الانفصال وأخشاب العزلة "، وسقطت معها أشياء كثيرة أسهمت في التعفن والتفسخ، وبقيت الوحدة، وبقي الحوار وسيلة ناجحة لحل كل الخلافات التي أرهقت وجدان المواطن في هذا البلد، وبالحوار وحده سوف تتاح لهذا الشعب قدرة أفضل على توظيف إمكانياته، وتسريع إنضاج شروط الانتماء إلى الزمن الجديد.
|