د. عبدالوهاب الروحاني - أول مرة تعرفت عليه عصر ذات يوم (وانا ما أزال صغيراً) وهو يسير راجلاً في شارع علي عبدالمغني، يتحلق حوله ومن خلفه نخبة من المثقفين، كان منظراً مهيباً لم يفارقني حتى اللحظة، واراه يمر امام عيني كلما خطر ببالي اسم الاستاذ البردوني؛ ذلك لان حضوره ، ومهابته التي ارتسمت في الذاكرة مذ ذاك لم تكن من منصب يتربع عليه، ولا من مسلحين يحيطون به، ولا من إعلام زائف يهلل له، وإنما كان من صنع الكلمة والموقف والابداع.
زرت شاعرنا البردوني اكثر من مرة منفرداً ومع اساتذة وشعراء كان من بينهم عبدالله قاضي، ويحيى البشاري، وعبدالرحمن قاضي، الذي كان في النصف الثاني من عقد السبعينيات يحرر الصفحة الثقافية بصحيفة الثورة حيث كنت اعمل فيها (مساء) بعد الدراسة مصححاً لُغوياً، فارتبطت معه بصحبة عمل وتعلم، وكنت اتردد خلالها على مقيله في بستان السلطان بحضور ثلة من اصدقائه الادباء والمثقفين، وكنت اقرأ في المقيل ما يخصني بقراءته.
ضيَّعوا جرير:
كان أخر لقاء مع الاستاذ البردوني (رحمه الله) في 1987م حين زرته الى منزله في مهمة حديث أدبي ثقافي لمجلة اليوم السابع، التي كانت تصدر من باريس برئاسة بلال الحسن، وكنت مراسلها في صنعاء.
كان موعدنا عند الحادية عشرة ظهراً.. طرقت الباب فدخلت ووجدته وحيداً في مجلسه يتنقل بين زوايا مكتبته، يتحسس رفوفها، ويلامس بيمناه اعقاب الكتب المرصوصة والمبعثرة .. كان يعرف موقعها وعناوينها كتاباً كتاباً.
قلت: اقدر اساعد بشيء يا استاذ عبدالله؟!
قهقه وقال: ما شي.. مابلا صورتهم قد ضيعوا جرير.. ضحكت، وفهمت انه يبحث عن ديوان جرير.. ثم رجع الى مقعده، وقال معي اتصال واحد وابدأ معك، وبدأ يحرك قرص التلفون بسهولة ويسر تماماً كما يفعل "المبصرون".
أنهى الاستاذ مكالمته وكانت خاصة ثم بدأنا الحديث، وطرحت أسالتي، عن المشهد الثقافي اليمني والعربي، وكيف يرى الطريق الى الوحدة..وكان حديثه غزيراً كالمطر، فكنت اطيل الاستماع اليه لهفة وتأدباً، ولم اشأ ان اقاطعه، فتوقف فجأة، وقال منزعجاً: ما لك ما تقاطعني وتسأل؟!
فقلت: كيف اقاطعك يا استاذ عبدالله وانت تتحدث، وانا اسمع منك ما لم اسمعه من قبل.. قال: قاطع قاطع لأجل لا أبتعد ..!!
وكانت النتيجة حواراً ضافياً اتذكر ان اليوم السابع نشرته بصورة غلاف للبردوني رحمه الله.. عندما تقابل البردوني الشاعر والفيلسوف والناقد والاديب والمفكر تجده شخصاً عادياً ممتلئاً تواضعاً وبساطة، ضحكته تسبق كلماته، كالبلسم مع اصدقائه ومريديه، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، لم يكن في حديثه تكلف ولا صنعة كما تعودنا ان نراه ونلاحظه مع غيره كثيرين.
بيت البردوني:
حياة البردوني كانت بسيطة ومتواضعة، كان يسكن بيتاً شعبياً اهم ما فيه مجلسه ومكتبته التي ترك فيها كل متعلقات نشاطه وإرثه.. وتلفونه، ومقعده، وقهقهاته التي تردد الجدران صداها.. كان بيتاً لا ينفع بعد رحيله الا ان يكون متحفاً يحمل اسمه وصوته، ولا يجوز ان يظل موقعه أطلالاً.
قد يتساءل البعض واين كنت؟! وماذا فعلت للبردوني حينما كنت وزيراً للثقافة؟! وهو سؤال وجيه قابلني كثيراً.. ولكن ما انا متأكد منه اننا حينها حاولنا بل سعينا جهدنا ان نرمم منزل الاستاذ البردوني ونؤهله ليكون معلماً ثقافياً بارزاً يحمل اسمه..
كان ذلك في إطار إعدادنا لخطة صنعاء عاصمة للثقافة العربية وقبلها أيضاً .. واتذكر ان احدّ اربعة من الزملاء المشاركين في إعداد الخطة تولى مهمة الترتيب للامر، والتأكد من وضع البيت وحاله مع الورثة، كان من بينهم الاساتذة احمد ناجي احمد النبهاني، وعلوان الجيلاني، واحمد حسين العنابي، و(ربما) عبدالملك المقحفي، ومحمد لطف غالب ، فرجع وقال ان الورثة على خلاف ولن يسمحوا لأحد بالاقتراب منه..
وهكذا، كان الموقف الذي حال بيننا وبين ما كنا نطمح اليه.. العزيزان علوان الجيلاني واحمد النبهاني اكدا ان المساعي باءت بالفشل الى سنوات لاحقة، ووفقاً لأحمد ناجي فالمحاولة تكررت في ظل الوزير الدكتور محمد المفلحي رعاه الله، ولكنها هي الاخرى فشلت.
تزامن الرحيل:
رحل البردوني في اغسطس 1999م وهو يحمل اوجاع البسطاء وانين الناس والوطن.. رحل وترك سفراً من الابداع الانساني بعد ان قدم اليمن شعراً وادباً ونقداً وفكراً وفلسفة ونبوءة كما لم يقدمه احد لا من قبله ولا من بعده ..
رحم الله الاستاذ البردوني.. نعاه العالم وخرجت كل العواصم في جنازته الا نحن ضننا عليه حتى بتعزية، وزدنا فتركنا منزله نهباً لعوامل التعرية حتى جاء زمن العواصف والسيول، وقرأ الخذلان فينا؛ ولعله أومأ لها ان الحقي بي حجارة بيتي، وكما كان اغسطس 1999م شاهداً على رحيله كان اغسطس 2020م شاهداً على جرف بيته.
رحم الله شاعر اليمن وحكيمها وفيلسوفها، الذي لن يتكرر»عبدالله البروني«..
|